«عاد» الجيش العثماني الى لبنان. جنوده ساروا مسيرة الفاتح في شوارع طرابلس، وصفقت لهم الجماهير. فبلدية طرابلس التي احتفلت أمس بذكرى تحرير المدينة من الصليبيين كانت قد طلبت من بلدية إسطنبول (يربط المدينتين عقد توأمة) أن ترسل فرقة المهاترة العثمانية لإحياء الاحتفال. يقول عضو لجنة التراث والآثار في البلدية والباحث في التاريخ التركي الدكتور خالد تدمري إن «فرقة المهاترة تاريخياً هي فرقة عثمانية كانت تتقدم الجيش اثناء الحروب، وتعمل على تشجيعه.
وخلال فترة الحكم العثماني كانت تعيش هذه الفرقة في طرابلس، في محلة المهاترة التي لا تزال تحمل اسم الفرقة حتى اليوم». ويوضح أن الفرقة التي قدمت الى طرابلس تعنى بالتراث العثماني، وقد شارك في المسيرة نائب رئيس بلدية إسطنبول وثلاثة من أعضائها.
تعد مسيرة فرقة المهاترة العمود الفقري للاحتفال، وهي تضم 23 شخصاً لبسوا زيهم الفولكلوري العثماني، انطلقوا عند الثالثة عصر أمس من امام قلعة طرابلس، وجابوا الشوارع الداخلية والساحات الرئيسية في المدينة، وسط حضور رسمي وشعبي، قبل أن يصلوا السادسة مساءً الى حديقة الملك فهد في محلة المعرض، حيث أُقيم احتفال رسمي بالمناسبة، وأُلقيت كلمات.
وعن سبب استبدال الفرقة المملوكية التي كان يستعان بها عادة بالفرقة العثمانية، وخصوصاً أن المناسبة هي تحرير طرابلس من الصليبيين على أيدي المماليك، أوضح تدمري أن «الاستعانة بفرقة مملوكية امر مكلف، عدا أنها غير متوافرة حالياً، لذا عملنا على الاستعانة بفرقة عثمانية، وخصوصاً أن المماليك والعثمانيين تجمعهما روابط تاريخية كثيرة، والطرفان تجمعهما بلبنان وطرابلس علاقات تاريخية وثيقة تعود الى اكثر من 700 سنة».
هنا تبدأ عملية التسييس للتاريخ، إذ ليس هناك من علاقة بين لبنان وتينك الفترتين التاريخيتين لأن هذا البلد بحدوده الحالية لم يكن موجوداً إبانهما، بل كان يعرّف عنه بنيابات صغرى (عهد المماليك) وبولايات (في عهد العثمانيين)، كما أن الرابط الأساسي لهاتين السلطتين على هذه الرقعة من الأرض هو الاحتلال، فالمماليك أزاحوا الصليبيين ونظموا المدن والأراضي وجباية الضرائب. تماماً كما كانت الحال أيام العثمانيين.
وتبقى المفارقات في ما هو أوسع من ذلك، فطرابلس قررت اعتبار تحرير المدينة من الصليبيين بمثابة يوم تاريخي لها. وبالفعل في هذا اليوم تفتح كل المواقع الأثرية مجاناً ويتوقف التعليم في المدارس وتقفل المؤسسات أبوابها، ويشارك آلاف الطلاب في المسابقة التاريخية. وأتى قرار اختيار يوم المدينة هذا بناءً على طلب من المؤرخ عمر عبد السلام تدمري قال فيه إن «طرابلس ولدت مرتين في التاريخ، المرة الأولى حينما بناها الفينيقيون، والثانية حينما بناها المماليك». وهذه في الواقع عملية اختيار للفترات التاريخية بالشكل الذي يتناسب مع الواقع، وهذا أمر خطير جداً. فبين الفينيقيين والمماليك 1622 سنة عاشت خلالها المدينة فترات من الازدهار، ولم تكن يوماً مهجورة. في الفترة الرومانية كتب المؤرخون عن معبد الاله زوس الضخم، وفي الفترة البيزنطية وصفت دفاعاتها. أما فترة حكم بنو عمار (وهم شيعة تسلّموا القضاء ثم الحكم من الفاطميين)، فعرفت بالعصر الذهبي. خلال ذلك القرن وصلت حدود طرابلس الى بيروت والهرمل وقلعة صافيتا في سوريا، واشتهرت بعلمها وأسواقها وغناها، وكانت مكتباتها تضم 50.000 مخطوطة، وكانت صناعة وتجارة الصابون والحرير تمتد عبر المتوسط. وحينما وصل الصليبيون إلى المدينة عرفوا إن احتلالها ضرورة لازدهارهم، فضيقوا عليها الحصار خمس سنوات، بنوا خلالها القلعة على مجرى النهر الذي يحمل اسم أبو علي، أمير بني عمار.
لم يكن الصليبيون ليربحوا معركتهم لولا تدخل سفن مدينة جنوى، فكان الهجوم براً وبحراً ودمرت طرابلس. مقارنة بالفترات السابقة، لا بد من اعتبار الفترة الصليبية حقبة سوداء، لكن اعتبار أن ولادة المدينة جاءت مع الحكم المملوكي الذي حرر المدينة إنما هو قرار سياسي وطائفي بامتياز. فطرابلس تقرر ما لم تستطع الدولة أن تتماشى معه في كتاب التاريخ. قررت هويتها السياسية ذات اللون الواحد، وقررت أن انتماءها الطائفي واحد، فوحّدت المماليك بالعثمانيين في احتفالاتها ومحت من تاريخها وشوارعها باقي الطوائف والأفكار. تحتفل المدن بيوم يُختار من تاريخها، لكنها عادة ما تعتمد تواريخ توحد ولا تفرق!
5 تعليق
التعليقات
-
حزين أيضاًمن حق الأخ فيصل أن يحزن و من حقه أيضاً ان يتألم كثيراً لأن التشويه و التزوير في التاريخ العربي و الإسلامي لم يقتصر فقط على تاريخ طرابلس. أزعم أن أحد أهم اسباب معاناتنا نحن العرب هو التاريخ المشوّه و المزور و ما يفاقم المشكلة هو جبن المؤرخين و المفكرين العرب في تصحيح التاريخ حتى نتصالح معه و نتصالح مع ذواتنا حتي تصلح مجتمعاتنا. الآن فرقة عثمانية تسير مسيرة الفاتح في طرابلس في ذكرى تحرير طرابلس من الصليبيين, و إذا انتهى "الربيع العربي" كما خطط له صانعوه سنرى الفرق العثمانية تسير في كل مدن العرب. هل من يبحث عن جواب كيف سقطت طرابلس خارج التاريخ المزوّر؟ و ماذا جلب المماليك و العثمانيين لطرابلس و ريفها؟ هل من يذكر عمليات الإبادة الجماعية على يد "المحررين" من ممامليك و عثمانيين, التي غفلها التدمريين في تواريخهم و لكن قرر كبيرهم الدكتور عمر التدمري "أن الحكم الفاطمي القائم على أساس مذهبي " ثيوقراطي " لم ينعم بالراحة بسبب الاختلاف في المذهب ، إذ أن أغلب أهل دمشق من السنة ، فلم يتقبلوا حكم الفاطميين وهم شيعة إسماعيلية..." شكراً لكاتب المقالة لتنبيهنا على تشويه آخر...
-
تاريخ طرابلس اكبر من عائلة التدمرييحزنني جداً ان ا رى تاريخ مدينة طرابلس يختزل فقد في مرحلتين من تاريخها ،هل من المعقول ان شخصين هما عمر تدمري وولده يحتكرون تاريخ مدينة عرفت في السابق بمدينة العلماء، انا ابن الفيحاء وحزين جداً جداً لان أشخاص محدودين ولأسباب سياسية يلعبون بتاريخ مدينتي ،ويختصرونه فقد بحديثين لا اكثر، ولم يكتفوا بهذا فقد للأسف لا بل يمذهبوه أيضاً وهم ليسوا جهلاء بل كل منهم يحمل درجة دكتوراه وسجلوا الصور والتاريخ باسماءهم واحتكروها ،والأخطر من هذا كله انهم يعلمون الأجيال ،ان في كل زاوية من طرابلس تاريخ فلماذا اختصاره فقد بالحقبة الصليبية،وانا اذكر صديقي يحىً فرحات الذي قام بتأليف كتاب عن تاريخ بنو عمار كيف حورب ونكر التاريخ وغير صحيح ان يكون في تاريخ طرابلس شيعة والخ،؟للأسف ان تلك المناسبة ليست للتعريف بتاريخ المدينة والاعلاء من شأنها بل للشحن المذهبي ومشبوه من يقف وراءها.
-
عقدة الحروب الصليبة..يبدو أن الشعوب المشرقية لم ولن تتعافى من عقدة الحروب الصليبية ولو بعد مرور ثمانية قرون على انتهائها.. فتارة تجد اليوم من ينعت الغرب بالصليب وتارة أخرى من يستنجد بالغرب داعيا الى حملة صليبية جديدة ضد الاسلام.. والأفظع من ذلك هو المؤرخ عبد السلام تدمري الذي يسخّر التاريخ لأهداف دينية!!! لذلك ندعو المجتمع العلمي السيكولوجي لاضافة مصطلح "عقدة الحروب الصليبية" الى قاموسه ونستحضر روح سيغموند فرويد بهدف ايجاد علاج لهذه العقدة!
-
طرابلس قلعة المسلمينانه التخلف والتصحر والجهل الذي يحكم البيئة الطرابلسية طرابلس المدينة الجميلة والتي كانت حاضرة تعج بالحياة والتنوع الاجتماعي فقد اقام فيها الكثير من ابناء المحافظات الاخرى بحكم ارتباطهم باعمالهم فيها وقسم كبير منهم لم يغادرها بعد تقاعده عن العمل كان العيش فيها رغيدا والالفة والمحبة عنوان بيئتها المتدينة دون تعصب والمنفتحة دون ابتذال طرابلس قلعة المسلمين حاليا هي التي تحتضن مار مارون والكنائس والسيدة ومار جرجس والراهبات اما الان فهي افقر واتعس مدينة في حوض المتوسط وهذا ما فعله بها ابناؤوها الابرار
-
لا حياة لمن تناديمقال ممتاز، ولكنه قصير نوعاً ما. حسبما علمت مرة أن فيها تكية للدراويش المولوية الصوفية أيضاً، غير النصارى من كل الطوائف والعلويين وربما الأكراد أيضاً. طرابلس الشام هي من أشهر مدن بلاد الشام تاريخياً (أشهر من بيروت)، ولو مثلنا الدول التي حكمتها بالألوان لنتج لدينا لوحة مزركشة جميلة، مثلها مثل كثير من مدن الشام. يا حبذا لو ركزنا على كل جميل من كل عصر ودين وحكومة، وافتخرنا بكل هذا التراكم التاريخي دون استثناء ودون انتقاء وتحيز سياسي أو مذهبي، ودون تحزّب لهوى نفوس مريضة تجهل تاريخها. بصفتي من بلاد شرق المتوسط، فأنا أفتخر وأحب وأعشق تاريخ هذه الأرض، منذ رسوم كهوف ما قبل التاريخ وحتى اليوم، لا أميز بين بيزنطي وإسلامي وفرنسي، فكلها لبنات بعضها فوق بعض، وكلها كنوز غالية وعزيزة ولا تقدّر بثمن، ولكن مع الأسف، لا حياة لمن تنادي في مجتمع يسعى كل لون فيه لإقصاء باقي الألوان من اللوحة المزركشة، لتحويل اللوحة إلى لون واحد فقط!