نهر العاصي الذي يبدو بعيداً، بل منسياً، بالنسبة إلى الكثير من اللبنانيين، هو واحد من أجمل المعالم السياحية في البلاد، مياهه عذبة وقاسية في آن واحد، المطاعم المنتشرة حوله كريمة ورخيصة أسعارها، وأجمل ما يقترحه لزواره رحلة في أحضانه على متن قارب لرياضة الرافت
لبان محمد طي
قدنا سياراتنا من بيروت متجهين نحو منطقة الهرمل على طريقٍ مليئة بالمطبّات والمساحات الترابيّة التي زال عنها الزفت. كانت الطريق طويلة، لكنّني لم أشعر بها، ذكريات تلك المنطقة وصورها المحفوظة في ذاكرتي أخذت تتوالى أمامي كأنّها لوحة تجمع تناقضات الطبيعة، فمحيط نهر العاصي فسحة حضراء مليئة بالأشجار والحقول في وسط أراضٍ بدأت تتصحّر. مياه النهر باردة تكسر حرّ شمس البقاع الحارقة، تذكّرت مدخل النهر الذي يطلّ منه قاموع الهرمل المتربّع فوق تلة، يرحب بالضيوف الآتين إلى المنطقة ويشهد على تاريخ طويل، فقد شُيِّد عام 175 قبل الميلاد في عهد الحاكم الروماني أليكسندر مانو.
وصلنا منهكين إلى نهر العاصي، لكنّ المكان يستحقّ عناء السفر. في المنطقة المجاورة للهرمل يجمع العاصي حوله معالم أثريّة أهمّها دير مار مارون الذي سُمِّي أيضاً مغارة الراهب، ويفاجئ النهر متتبع مساره بشلالاته العديدة، وأهمها شلالات الدردارة التي يبلغ ارتفاعها أكثر من 7 أمتار.
سُمِّي هذا النهر «العاصي» لأنّه يجري بعكس باقي الأنهار اللبنانيّة، وأُنشئت باسمه أندية رياضية كثيرة، فغزارة مياه نهر العاصي وطبيعة مجراه هما عاملان فريدان جعلا منه النهر الأوّل في الشرق الأوسط لممارسة رياضات مائية raft – kanoe kayak. وجود الأندية والكوادر الرياضية المنتشرة على ضفتي النهر تمكّن الزوار والسياح من التمتع برحلة عبر نهر العاصي، ورياضة الرافت هي ما ذهبنا نقصده، فبعد تدخين النارجيلة وتناول كوب الشاي الهرملاني الأسود، يحين وقت السباحة، لكن لحظة، قبل أن تستسلم للماء، تأمل الشبان المعايشين للنهر، وهم يقفزون فيه، منهم من يقلّد النسر في هبوطه، ومنهم من تسلق أغصان الأشجار المحيطة، وفي قفزته نحو المياه أخذ يتقلب في الهواء كلاعب الجمباز.
تشعر بأن للنهر «وهرته» فمياهه سريعة وبرودته قارسة، والسباحة فيها تحتاج إلى شجاعة كبيرة، وقد لا تنزل إلى مياهه إن لم يرمك أحد من الخلف، وفي جميع الأحوال تشعر بأنّ قلبك سبق جسدك نحو الأعماق.
جاءنا مدرّبان قسّمانا إلى مجموعتين، في قارب الرافت يتراوح عدد الركاب بين خمسة وسبعة، إضافة إلى المدرّب. لبسنا خوذات وسترات مائيّة، وحمل كلٌّ منّا مجذافاً لتبدأ رحلة ساعة من التشويق والإثارة اللذين يصعب وصفهما. عند ملامسة القارب للمياه تخوفنا من أن يجرفنا النهر، أو أن تعرقل سبيلنا أغصان الأشجار الممتدة حتى الماء أحياناً، أم ترانا نخطئ بالتجذيف وينقلب هذا الشيء الذي يحملنا رأساً على عقب. وجوهنا مكفهرّة ودقات قلوبنا تكاد تصمّ آذاننا، شعورٌ بالخوف جعلني لوهلة أتمنى العودة إلى برّ الأمان. لكن سرعان ما تبدّدت هذه الأحاسيس واستبدلت بالحماسة. مع صرخة المدرّب go كنا نجذّف ثمّ نرفع المجاذيف كي لا تلامس المياه، صرنا فريقاً يعمل بتفانٍ تام كي نسبق المجموعة الثانية. كادت حماسة السباق توحّد حركاتنا لولا روعة منظر نهر العاصي من الداخل، فقد سرح أحدهم بصفاء المياه وجمال المناظر التي تحيط بنا، وألهم جمال المكان آخر بحديث رومنسي مع حبيبته، الأول صار يجذّف بنسقٍ منفرد والآخر ترك مجذافه داخل المياه، لكن المدرّب اليقظ كان لهما بالمرصاد، «يقظ»؟ نعم، رغم أنه أمضى الرحلة يدندن العتابا والميجانا ونحن نردّد بعده.
في قلب النهر، أنت تحت سماء زرقاء صافية، تغمرك مياه منعشة، وأشجارٌ متنوّعة تضفي على المكان عبيراً مميّزاً، الطبيعة هنا سعيدة تمارس سحراً خفيّاً يدخل إليك البهجة والسرور، تتمنّى لو أنه كان بإمكانك تمضية حياتك هنا بين المياه والسماء بعيداً جداً عن كل أنواع التلوث البيئي.
قال المدرّب: «شمال لورا، يمين go» وصار القارب يدور في مكانه،«خمّسناه» شعرنا كأنّنا في مدينة الألعاب، ثم أكملنا طريقنا وصرنا نسمع صوتاً خفيفاً لمياهٍ تتدفّق، كنّا نقترب من الشلال، كيف سننزل؟ هل يمكن أن نقع؟ ما هو حجم الضرر الذي يسببه السقوط على الصخور، بماذا نمسك؟ هل يمكن أن نطال الغصون؟
جلسنا داخل الرافت وأمسكنا الحبال التي تحيطه، تسارعت دقات قلوبنا، لم نجرؤ على رفع رؤوسنا لنرى ما يجرى. علا الصراخ، لكن أحسسنا بدغدغة في أحشائنا، للحظة غمرتنا المياه وشعرنا بأنّنا غرقنا. عدنا إلى وضعنا السابق، نجذّف ونغني، نرمي النكات و«نخمّس» القارب حتى وصلنا إلى شلالات الدردارة، وهي الأعلى بين الشلالات السابقة لأن القارب بدا في أقصى سرعته. كانت عيون رواد المقاهي شاخصة إلينا والأصابع تدلّ علينا، وكُثر كانوا يصوّروننا، ويسألوننا بسرعة إن كان الأمر ممتعاً. توقفنا قليلاً تحت الشلالات حيث غمرتنا المياه المنعشة، ثمّ أكملنا طريقنا إلى محطّتنا الأخيرة.
كيف يمكن أن تنتهي الرحلة؟ فجأة سمعنا صرخات الفريق الثاني ترتفع عالية، فالشبان رموا بعضهم في الماء، وراحوا يسبحون بسرعة محاولين اللحاق بالقارب.
نزلنا عند حافّة النهر حفاة مبلّلين تماماً، احترنا في كيفية العودة إلى نقطة الانطلاق، لكن سيارة بيك أب كانت جاهزة لنقلنا، بدا المشهد مضحكاً، لكنّنا كنّا نستمتع بجمعتنا وبرؤية نهر العاصي من الأعلى، شاهدنا مطعم على شكل جزيرة، والخضار في كل مكان، رأينا خيماً وشاليهات مجهّزة تجهيزاً تاماً للمنامة، وحولها مجموعات من الأفراد يطبّلون ويغنون ويرقصون.


لقمة طيبة