في السابق، لم تكن زيارة لوزير الخارجية الأميركي إلى الرياض لتثير الكثير من الاهتمام. كان هذا النوع من الزيارات روتينياً، ووتيرته أسرع، ويَجري خلاله بسلاسة تخليص أمور بين حليفَين. لكن الزيارة التي يبدأها اليوم الوزير أنتوني بلينكن إلى العاصمة السعودية، تمثّل حدثاً غير عادي. لم يَعُد كلّ من طرفَي العلاقة السعودية - الأميركية، يرى الآخر حليفاً بالمعنى القديم لعلاقات التحالف بينهما، وإنْ كانا أيضاً يتصرّفان على أن التحالف لم يجرِ تفكيكه بعد، وما زالت أمامه فرص للاستقرار على نوع معيّن من الترتيبات المتبادلة، مع استبعاد العودة إلى الصيغة السابقة المتمثّلة في «الأمن مقابل النفط». ولعلّ آخر المؤشرات إلى أن الرياض نفسها لم تَعُد معنيّة بتقديم الجزء المتعلّق بها وفق تلك الصيغة، أي النفط، من دون الحصول على المقابل في الأمن، هو القرار السعودي عشيّة الزيارة، بخفض مليون برميل من الإنتاج السعودي، بصورة أحادية ومن دون تنسيق حتى مع أعضاء «أوبك بلس» الذين يرفض معظمهم مزيداً من الخفض في حصصهم الإنتاجية، لحاجتهم إلى السيولة.الأكثر إثارة في القضية هو أن واشنطن لا تستطيع اليوم اتّهام الرياض بدعم جهود الحرب الروسية في أوكرانيا. فالقرار السعودي اتُّخذ في وجه موسكو أيضاً، التي لم ترفض فقط - خلافاً لما أوحت به المواقف المعلَنة عقب اجتماع «أوبك +» أوّل من أمس - الانضمام إلى الخفض الجديد، وإنّما تجاوزت حصّتها الإنتاجية بموجب الخفض السابق، الشهير، حين فاجأ وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في تشرين الأول الماضي، الجميع، بمن فيهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالدفع نحو خفضٍ بواقع مليونَي برميل يومياً، فيما كانت الدول الأعضاء في المنظّمة تبحث خفضاً بواقع مليون واحد فقط. يومها، قيل إن بوتين سُرّ بالهدية السعودية غير المتوقّعة، على رغم أن معظم الدول الأعضاء الأخرى، ولا سيما الإمارات، قبلت بالخفض على مضض، استجابةً للضغط السعودي. وعلى رغم أن الخطوات السعودية لم تعطِ النتيجة المطلوبة بالكامل، على مستوى ارتفاع الأسعار، وهو ما حدّ نسبياً من هذا العامل في التوتّر السعودي - الأميركي، بعدما وجدت أميركا طرقاً أخرى لتعويض المعروض النفطي، على رأسها عقد اتّفاقات جانبية مع العراق وإيران وأطراف أخرى تسمح بتصدير مزيد من تلك السلعة، إلا أنها تكرّس استقلالية واسعة على مستوى القرار النفطي، لدى القيادة السعودية الجديدة.
في كلّ الأحوال، حتى لو جرى طرح بند النفط في زيارة بلينكن، إلّا أن الأساس فيها هو محاولة التوصّل إلى ترتيبات بين البلدَين، في ضوء الحقائق الجديدة في الشرق الأوسط، وأهمّها الاتفاق الإيراني - السعودي، وتأثيراته على الحرب في اليمن وغيرها من الملفات، ومحاولة واشنطن ربط تلك الترتيبات بتطبيع سعودي مع إسرائيل. وهو ربطٌ يبدو أن الجانب الأميركي يسعى من خلاله إلى تعويض كيان العدو من «كيس» غيره، وإغراء هذا الكيان في الوقت نفسه لتقبّل احتمال استئناف المفاوضات النووية الأميركية - الإيرانية. فالولايات المتحدة هي التي سرّبت ما سُمّي بـ«الشروط السعودية» للتطبيع مع العدو، وأبرزها الحصول على أسلحة أميركية متطوّرة، ومساعدة الرياض في إقامة برنامج نووي سلمي، ومن ثمّ طفقت تروّج لكون تقديم مثل هذه «التنازلات» إلى المملكة، يحتاج إلى موافقة إسرائيل، المضمون من قِبَل أميركا تفوّقها عسكرياً على كلّ الدول العربية.
كلام إيران عن قرب تحالف أمني بحري يضمّها إلى السعودية ودول خليجية أخرى يستفزّ واشنطن


المحاولات الأميركية للتوصّل إلى صيغة جديدة للعلاقات مع الرياض، استهلكت الكثير من الجهد حتى الآن، بما يوحي بأن زيارة بلينكن التي تستمرّ ثلاثة أيام، ويَعقد خلالها لقاء مع نظرائه في «مجلس التعاون الخليجي»، لن تحقّق الكثير، إذا كان ما يسعى إليه هو تسويق البضاعة القديمة نفسها، بحلّة جديدة، وفق ما تشير إليه التسريبات في الصحف الأميركية والإسرائيلية. فالذي تعرّض للاهتزاز في الجوهر هو هذا المنطق الأميركي المقلوب، فضلاً عن أن الأمر حالياً يختلف عن السابق في أن البضاعة الأميركية كانت في الماضي هي الوحيدة المتاحة. أمّا اليوم، فإذا أرادت الرياض الحصول على أسلحة متطوّرة أو بناء برنامج نووي سلمي، فلديها خيارات كثيرة لفعل ذلك، تبدأ بروسيا والصين ولا تنتهي بكوريا الشمالية أو حتى إيران نفسها، فيما الحجّة المزعومة في شأن حاجة السعودية إلى إسرائيل لتحقيق توازن مع إيران، يبدو الاتفاق الإيراني - السعودي وحده كفيلاً بنفيها، بما لا يبقي من أيّ علاقات مع العدو إلّا الجانب «السيّئ»، المتمثّل في استفزاز مشاعر الشعب السعودي بتطبيع مجاني.
في هذا السياق، يَحضر التوتّر الذي أثاره في الولايات المتحدة، الكلام الإيراني عن قرب إقامة تحالف أمني بحري يشمل إيران والسعودية ودولاً خليجية أخرى، من بينها الإمارات والبحرين، فضلاً عن العراق والهند وباكستان. إذ سارعت واشنطن إلى اعتبار هذا الكلام «تحدّياً للعقل»، علماً أن أيّ منطق سليم يفترض أن الدول المطلّة على بحار مشتركة أو ذات المصلحة المباشرة فيها، تستفيد من إقامة تحالفات في ما بينها لحماية مواردها وأمنها، وخاصة إذا كنّا نتحدّث عن منطقة غنية بالنفط ومستهدَفة كالخليج. ومرّة أخرى، تبني الولايات المتحدة حججها لقول هذا الكلام الذي نقله موقع «بريكينغ ديفنس» عن الناطق باسم الأسطول الأميركي الخامس الذي يتّخذ من البحرين مقرّاً له، الأميرال تيم هوكينز، على وقائع مضلّلة، منها أن ما يجعل هذا التحالف «تحدّياً للعقل هو أن إيران هي السبب الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة، فكيف ستكون جزءاً من حماية المياه التي تهدّدها هي نفسها؟»، ومنها عدم إمكانية ضمّ دولتَين معاديتَين لبعضهما البعض كالهند وباكستان إلى تحالف واحد، علماً أن تحالفات كهذه تحتمل تقاطعات جزئية بين الدولتين القريبتين من منطقة النفط تلك والتي لهما مصالح حيوية فيها، وبالتالي يمكنهما تحييد هذه المصالح عن العداء التاريخي بينهما.
ما يشي به الاعتراض الأميركي، هو أن مِثل هذه التحالفات إذا قامت، فهي تقوم بمعزل عن الولايات المتحدة وعلى حساب دورها، ولا سيما في زمن الصراع على الممرّات المائية التي تسعى واشنطن إلى إبقاء تحكّمها فيها، في الوقت الذي تخفّف فيه أعباء وجودها على الأرض في الشرق الأوسط.