دمشق | نَيْل ثقة الشباب السوريين الذين ينظّمون الحراك السلمي والعسكري الهادف لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، أكثر من صعب. أمر مبرَّر عندما تدرك أن فلاناً من بين مضيفيك معتقل سابق لأيام أو أسابيع بناءً على «إخبارية»، وآخر لأشهر، أو عندما يكون «الضيف» صحافياً من لبنان الذي ينظر المعارضون إلى نصفه على الأقل، على أنه «محسوب على النظام» السوري. لكنّ اجتياز حواجز الريبة وكسب الثقة يحصل في النهاية، ويصبح حينها من الممكن الاستماع لتقييم بعيد عن التعقيد، على لسان هؤلاء الذين يصنعون الحدث لا مَن يتحدث باسمه، للعام الأول لـ«حياتهم الجديدة»، مثلما يحلو لبعضهم أن يعبّر، تلك التي بدأت في 15 آذار الماضي.
شبان وشابات ناشطون في دمشق وريفها باتوا متّفقين على عناوين ولو فضفاضة وعريضة جداً للتقييم. الخلاصات كثيرة والوجهة المستقبلية لعملهم تسير ولو بصعوبة نحو الوضوح، ويمكن اختصارها بناءً على الأحاديث معهم بالآتي:
ــ العالم ليس معنا، وحين يكون معنا، فذلك لا يُترجَم بأكثر من الكلام والتصريحات. ــ إيجابيات بقاء الثورة في الداخل بلا قيادة سياسية معروفة أكثر من سلبياتها. ــ «التوظيف» السياسي لدماء وعذابات المعارضين، في الداخل والخارج، كان سيئاً. ــ تقييم الأداء الاعلامي لشباب التنسيقيات و«الهيئة العامة للثورة السورية» و«المجلس الأعلى للثورة» يتفاوت بين ناشط وآخر. ــ الظروف الدولية والاقليمية لم ولن تسمح، في المدى القريب على الأقل، بتدخُّل عسكري خارجي. ــ الأداء العسكري لكل ما بات يوضَع في خانة «الجيش السوري الحر»، كان متفاوتاً من منطقة إلى أخرى، لكنه بجميع الأحوال بحاجة إلى «نفضة» تترجَم بتوحيد القيادة العسكرية وتنظيمها وتمويلها وتسليحها، بعكس ما هي الحال في ما يتعلق بشعار ضرورة «توحيد المعارضة»، الذي ينظر إليه عدد كبير من الناشطين على أنه «حجّة يتمسّك بها العرب والغرب لتبرير عدم الرغبة ولا الاستعداد لفعل شيء حسّي ضد النظام حالياً، لكون القاصي والداني يدرك أنّ أسماء كبيرة وتاريخية من المعارضين السوريين، في الداخل والخارج، غير مستعدّين بأي حال وبأي ثمن للعمل معاً في إطار موحَّد لأسباب، جزء كبير منها شخصي». ــ تجربة «مؤتمر أصدقاء الشعب السوري» في تونس أثبتت أنّ «المجلس الوطني السوري» انتهى مفعوله السياسي بالنسبة إلى كثُر، مثلما أنّ الثقة، بالنسبة إلى عديدين، مفقودة أصلاً بمعارضة الداخل بغض النظر عن الاحترام الكبير الذي يعرب الجميع عنه لرموز يتعدّى مجموع سنوات سجنهم مئات السنين.
كلام كثير ومتضارب أحياناً في التقويم لدى الناشطين سلمياً وعسكرياً، لكنه ينتهي حتماً عند خلاصة واحدة يمكن صوغها بأن «الأمور متجهة نحو مقاومة شعبية وحرب استنزاف طويلة وباللحم الحي»، على قاعدة الأهزوجة الرائجة «بدنا نسقط النظام بهمّتنا القوية»، أي بالقدرات الذاتية، و«إذا أتانا شيء من الخارج فخير بخير، لكننا لن نبقى نراقب بورصة تصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين والروس والخليجيين والأتراك، ومن بعدهم وقبلهم أركان المجلس الوطني السوري لكي نستبشر خيراً أو نتوجّس شراً».
على بساطة مواقف وعبارات بعض الناشطين في «التنسيقيات» و«الجيش الحر» ممَّن لم يتعاطَ عدد كبير منهم أي شأن عام قبل 15 آذار الماضي، تتلمّس وعياً سياسياً تحليلياً لافتاً؛ عبارة واحدة تتكرّر كلما حاولتَ استمزاج رأيهم بمطالب «المجلس الوطني» ومعارضين كثُر بالتدخل العسكري الخارجي. «ألم يفهم هؤلاء بعد أنّ الغرب والعرب وتركيا عاجزون عن التدخل العسكري لألف سبب وسبب، منها الأزمة الاقتصادية العالمية واستعداد فرنسا وأميركا ودول أخرى لانتخابات قريبة في دولهم، والخشية من تأثير ارتدادات تدخل في سوريا على الأوضاع الداخلية لدول الجوار والخوف من أثر اندلاع حرب أهلية شاملة في سوريا والعجز عن اجتياز الموقف الروسي...؟ إن كانوا غير مدركين لاستحالة التدخل الأجنبي، على الأقل قريباً، ورغم ذلك يواصلون تكرار المطالب نفسها، فهذه مصيبة. وإن كانوا مدركين لهذا الواقع، ومع ذلك يتمسكون بالكلام نفسه، فتلك مصيبة أكبر» يقولون. وماذا تريدون من «المجلس الوطني» أن يفعل إذاً؟ الجواب يتكرر على أكثر من لسان: «الاستنفار في سبيل أولوية توحيد العملَين العسكري والمدني داخل سوريا، وإمداده وتنظيمه وتمويله وضبطه لمنع التجاوزات الحاصلة، والتي تنفّر كثراً وتبعدهم عن الحراك، على الأقل إلى منازلهم إن لم يكن إلى أحضان النظام». المطلوب أيضاً بالنسبة إلى هؤلاء، «دعم جميع أوجه الثورة، لأن الكثير ممّا يُقال عن مليارات تصل إلى الناشطين في الداخل، وشحنات الأسلحة من العراق ولبنان والأردن وتركيا هو مجرد كلام، وما يصل منه بالفعل محكوم بمصائب عديدة يختصرونها على الشكل التالي: أولاً، بالفعل يصل بعض السلاح والذخيرة، لكن عن طريق أفراد تجّار، وهو ما جعل الرصاصة الواحدة تُباع في بعض المناطق بـ100 ليرة سورية (نحو 2000 ليرة لبنانية). ثانياً، حتى السلاح الذي وصل إلى أيدي المقاتلين، والذي تبيّن أن جزءاً منه مهترئ وفي وضعية لا تصلح للاستخدام، فمشكلته كبيرة بما أنّ إيصاله إلى المناطق غير الحدودية أكثر من صعب، في ظل التشديد الكبير الذي تمارسه الحواجز الأمنية بين محافظة وأخرى، وبين مدينة وأخرى، وبين حي وآخر أحياناً. هكذا، فإنّ «ريف دمشق وقلب العاصمة في هذه المعادلة سيبقيان محرومين من السلاح بما أنّ الحدود اللبنانية الشرقية مع سوريا، الأقرب إلى دمشق وريفها، ممسوكة أمنياً إلى حدّ كبير. وإن وصل السلاح والذخيرة عن طريق إدلب المحاذية لتركيا مثلاً، أو المنطقة الشرقية الحدودية مع العراق، أو إلى درعا عن طريق الأردن، أو إلى بعض مناطق حمص عن طريق الحدود اللبنانية الشمالية، فإنّه يرجَّح أن يبقى محصوراً في هذه المناطق».

العسكرة والانشقاقات

في ظل تلك الظروف، حين تسأل ناشطين من شباب «تنسيقيات» دمشق وريفها ومن شباب تعاطوا من قريب أو بعيد بنشاطات «الجيش الحر»، عن جدوى دعمهم عسكرياً وتسليحهم من الخارج، في وجه نحو نصف مليون جندي نظامي ونحو 100 ألف من عناصر النخبة في 17 جهاز أمني سوري، وعدد غير محصي بعد من «العواينية» (المخبرين) و«الشبيحة»، يكون الجواب على أكثر من لسان أنّ «النظام لن يقدّم أي تنازل إلا بالقوة، أو على الأقل تحت الضغط الكبير، كما أنّ أحداً لن يغامر ويدعمنا مالياً وتسليحاً إن ظلّ الفلتان العسكري بهذا الشكل، من دون قيادة هرمية واضحة خاضعة لقرار سياسي قادر على ضبط السلاح كي لا تتكرر التجربة الليبية في ما بعد». كلام يجد صداه في إشارات البعض إلى أن «أيّاً من المطالب الملحّة للمؤمنين بالعمل العسكري وجدواه، من حظر جوّي إلى منطقة عازلة، لن يتحقّق إذا ظلّ العمل العسكري المعارِض هاوياً وقابلاً لأن يتحوّل إلى حرب أهلية تطال أقليات مطلوباً استمالتها لا قتلها». قناعة أخرى راسخة لدى هؤلاء مفادها أن «الانشقاقات العسكرية الكبيرة، رُتباً وعدداً، لن تحصل قبل أن يطمئنّ العنصر والضابط إلى أن المعركة سيكون فيها شيء من التكافؤ، وقبل أن يطمئنّ مشاريع المنشقين إلى أنّ عائلاتهم ستكون محمية وآمنة في مناطق عازلة أو خارج البلاد». وبالحديث عن العمل العسكري، فإنّ الاعتراف حاضر بأنّ الانشقاقات لا تزال «دون المستوى المطلوب» بالنسبة إلى المعارضين، حتى أنّ بعض المعارك العسكرية «لم تضمّ سوى أعداد قليلة من المنشقّين، في مقابل غالبية من سكان المنطقة ممن حملوا السلاح الخفيف والقليل، وهم لا يعرفون سوى ألف بائها» التي تعلّموها خلال خدمتهم العسكرية الالزامية في بلادهم.
هنا تُطرَح المشكلة؛ فبحسب تقييم هؤلاء لإيجابيات وسلبيات عسكرة الثورة، تتكرّر العبارة نفسها بأشكال مختلفة على لسان معظم من شارك ولا يزال في العمل على الأرض، على تنوُّع أشكاله. يشيرون إلى أن العسكرة «فُرضَت فرضاً علينا من قبل النظام. كل حركتنا هي لوقف القتل، بالتالي فإنّ اضطرارنا إلى القتال هو آخر ما كنّا نرغب به، لكن لم يكن هناك وسيلة أخرى إذ إنّ الأيام لم تحمل سوى المزيد من العنف والتعذيب والاعتقال من قبل النظام»، إضافةً إلى «المهازل التي يسمونها إصلاحات» على حد تعبيرهم. وحين تسألهم عن خيار يرفعه البعض اليوم حول ضرورة العودة إلى شعار «السِّلمية»، يجيبونك فوراً بأن هذا الكلام «مجرّد تنظير لا يُصرَف إلا في تبرير التضحية بالمزيد من القتلى المجّانيين».

«الجالية المسيحيّة خائفة»

«وُلدنا ونشأنا على فكرة أنّنا (المسلمين) نعيش في سوريا حالة اندماج لا مجرَّد تعايش مع المسيحيين، وهو ما بدا مشكوكاً بصحتّه منذ انطلقت شرارة الثورة في درعا». يقولها ناشطون بعبارات متعدّدة لكنها تصل إلى المغزى نفسه: المسيحيون، في دمشق خصوصاً، هم أكثر المستعدّين للذهاب حتى النهاية مع النظام، يقولها الناشطون بخيبة يحاولون باستمرار فهم أسبابها، وخصوصاً أنه، بحسب تأكيد العديد منهم، «لم يتعرض المسيحيون لجرائم خطف أو قتل مذهبية تُذكَر خلال العام الأول للثورة». أكثر من ذلك، فوفق هؤلاء الناشطين، «عانى المسيحيون، كغيرهم من فئات الشعب السوري، من كل أشكال الغبن والعنف من قبل النظام، وقد أعطوا من قبل ناشطي وساسة الثورة، تطمينات وضمانات وأحجاماً تتجاوز حجمهم الطبيعي في الأطر السياسية التي انبثقت عن الثورة، كالمجلس الوطني السوري مثلاً». ورغم ذلك، يقولون «قرّر غالبية المسيحيين الاصطفاف إلى جانب النظام، تارةً بحجة الخوف من تكرار تجربة تهجير وقتل مسيحيّي العراق بعد الاحتلال الأميركي، وتارةً أخرى بدوافع أقلوية عصبوية غذّاها النظام ورجال دين استعادوا هيبتهم لدى أبناء رعيّتهم، على قاعدة أن المسيحيين خايفين». تسألهم: ممّ هم خائفون؟ من العرعور أم من «الاخوان المسلمين»؟ أم ببساطة من حكم الغالبية السنية في بلد اعتاد حكم الأقلية؟ تسمع الاجابة من ناشطة علوية معارِضة حال قومها مشابهة شيئاً ما لحال المسيحيين من ناحية التعاطي مع الأحداث: «هم خائفون من كل شيء. كل شيء مجهول بالنسبة لهم حالياً. يرون تجربة مسيحيي العراق أمامهم. يشعرون بأن امتيازاتهم بخطر، كذلك نمط عيشهم المتحرر نسبياً». وبالفعل، جولة في أحياء باب توما وباب شرقي والقشلة والقصّاع كفيلة بأن تجعلك تلاحظ ظاهرة ازدياد الصلبان المنتشرة على أعناق الشبان والشابات. أحياء يرى الناشطون أن النظام «يكافئها في تزويدها الجيد بالكهرباء التي لا تنقطع أكثر من 3 ساعات يومياً بأسوأ الأحوال في باب توما مثلاً، بينما العقاب الكهربائي لأحياء أخرى يلامس الساعات الـ15 أحياناً». أكثر من ذلك، تسمع قصصاً عن كيف أن الهوية المسيحية «باتت كفيلة وحدها بالسماح لصاحبها بالتنقل بحرية كاملة على الحواجز الأمنية المنتشرة» كالفطريات هذه الأيام، بين دمشق وريفها وبين المحافظات وداخل المدن على قاعدة أن «هذا من جماعتنا». النتيجة تبقى واحدة: أمثلة وأمثلة تسمعها على لسان ناشطين معارضين عن كيف أنهم باتوا لا يجرؤون على تنظيم «تظاهرة طيارة» في الأحياء المسيحية من دمشق، «خوفاً من تكرار حالات تواطؤ بعض سكان هذه الأحياء مع رجال الأمن للقبض على المتظاهرين».
غير أنّ تفصيلاً مهماً يتوقف عنده عدد من الناشطين لدى الحديث عن ظاهرة تحول المواطنين المسيحيين إلى ما يشبه «الجالية المسيحية في سوريا» بحسب تعابيرهم؛ خارج دمشق، «الوضع أفضل» من ناحية انخراط المسيحيين في الحراك، مناطق حمص نموذجاً، و«يكفي التذكير بأن أحد أول من سقطوا في درعا كان مسيحياً»، يقاطعك أحدهم. وبعد الانتهاء من سرد الأمثلة الكثيرة عن «الحياد السلبي» لغالبية المسيحيين، يحين الوقت لمحاولة فهم الشعور العام الذي ينتاب هؤلاء الناشطين إزاءهم؛ هل هو حقد؟ رغبة بالانتقام؟ تفهُّم نظراً لما يعرفه الجميع عن أزمة الأقليات و«الهويات القاتلة» في هذا الشرق؟ يأتي الجواب في استفتاء عفوي في جلسة مع نحو 15 ناشطاً وناشطة من مختلف الطوائف تقريباً ما عدا المسيحيين، نتيجته محاولة تفهُّم للموقف، ولوم وعتب كبيران على المسيحيين يلامسان الشعور بالخيانة، إلا أنه مربوط دوماً بأنّ «التعميم ممنوع»، وجزْم بأن احتمال أن تشهد سوريا أعمالاً انتقامية طائفية بحق المسيحيين تحديداً، «ليس كبيراً». تعجز عن فهم ما إذا كان ذلك الموقف عامّاً لدى فئات محافظة في مدن ذات غالبية سنية كبيرة كدوما وجوبر وبعض مناطق حماه، من المؤكد أن أجواءها بعيدة عن ناشطين، بعضهم يساريون، مهندسون وأطباء وموسيقيون ومخرجون ومسرحيون...
الكلام عن (عدم) انخراط المسيحيين في العام الأول للحراك، يتبعه حتماً تعريج على الأقليات الأخرى، الكبيرة منها، العلوية والدرزية طبعاً. عن الدروز وهدوء محافظة السويداء، تسمع التقييم الأفضل على لسان ناشطين متحدرين من عائلات درزية انتقل بعضهم للسكن في دمشق ليكونوا قادرين أكثر على الحركة منذ 15 آذار. هنا، تتوزع أسباب الغياب التي يعددونها: من «التقية» والخوف من الجوار وغياب «مرجعية تقليدية قادرة على قيادة الثورة من جبل العرب»، مثلما حصل في عشرينات القرن الماضي مع سلطان باشا الأطرش، مروراً بعدم ارتكاب النظام «الخطأ القاتل» بعد، أي عدم سقوط أي قتيل من المتظاهرين المعارضين في السويداء، وصولاً إلى واقع أن نحو 100 ألف شاب درزي من تلك المحافظة وقراها يعيشون في المهجر للعمل، وليس آخراً ما يتردّد عن أسباب دينية بحتة تملي على الدروز اتخاذ الموقف الذي يتخذونه حالياً، وهي معطيات غير منتشرة إلا في أوساط مَن بات مؤهلاً لـ«تسلُّم دينه»... في المحصلة، تبقى النتيجة واحدة أيضاً: السويداء، باستثناء مدينة شهبا، حركتها المعارضة خجولة، «وكل ما نطلبه من الدروز هو الوقوف على الحياد، وليس التواطؤ مع النظام». يقولها ناشطون دروز ساهموا في نشر ما سمّوه «لائحة عار» تضمنت أسماء عدد كبير من رجال الدين والمال والسياسة الدروز في جبل العرب، على خلفية دعمهم متعدد الأشكال للنظام.

حمص: الخاصرة الرخوة

للعلويّين حديث آخر نظراً لحساسية الموضوع. هنا عنوان المحظور حتى بالنسبة لعدد كبير من الناشطين المعارضين جداً. يذكّر ناشط علوي محاوريه بأنه، تاريخياً، لطالما كانت «عقوبة النظام بالنسبة للعلويين المعارضين مضاعفة». تسأله: لكن ما الذي جرى لكي يعود غالبية العلويين إلى الاصطفاف خلف النظام؟ وهم الذين أفرزوا قيادات يسارية خصوصاً، تُعتبر من أشرس من ناضل تاريخياً ضد نظام البعث؟ هنا أيضاً تأتيك الأجوبة الأدقّ على لسان ناشطين علويين، بعضهم «منبوذون من بيئتهم». تقول محدّثتنا إن «والدي كان يمنع مجرّد الحديث بالدين وعنه في منزلنا، أما اليوم فبات متديناً بشكل لا يصدَّق!». حالة تختصر المشهد العام المحيط بالحالة العلوية في البلاد، إذ إنّ الحراك المعارض في مناطق الساحل وجبل العلويين لا يزال ضعيفاً. لكن بحوزة الشبان والشابات المعارضين عشرات القصص عن «جرائم قتل وخطف ارتكبها رجال أمن بحق علويين، وألصق الاعلام الرسمي تهمة ارتكابها بالمعارضين، السنّة منهم طبعاً». وهنا، يعترف عدة ناشطين بأن أعمال خطف بحق العلويين حصلت ولا تزال تحصل بالفعل على أيدي معارضين، ويبرّرون ذلك بالتساؤل «كيف لا، والعلوي المختطَف بات يمكن مقايضة حريته بعدد كبير من الناشطين السنّة المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية؟». أمثلة تسمح بفهم ولو جزئياً لهذا الخوف لدى هذه الطائفة التي باتت تتماهى مع كلمة النظام، بنظر المعارضين، وقد تكون كفيلة بفهم لماذا النسبة الأعلى لمشاهدة قناة «وصال» التابعة للداعية السلفي عدنان العرعور، هي في المنازل العلوية، «لأنّ النظام يقول لهم انظروا ماذا سيحل بكم إن حكم هؤلاء»، وفق تعبير الناشطة العلوية.
وماذا لو سقط النظام؟ ماذا سيحلّ بالعلويين؟ تسأل جمْع الناشطين. الاجابة سلبية: خطر الأعمال الانتقامية ذات الطابع المذهبي في حمص تحديداً، كبير. حمص مصدر الرعب الطائفي إذاً، على الجبهات كافة، وخصوصاً على «المحور» السني ــ العلوي، ذلك أن «الكثير من الدم قد أُرهق في حمص، وفي النهاية لا يمكن التعويل على وعي لا يزال بدائياً عند شرائح ليست بقليلة من الشعب السوري. صحيح أنّ الاسلام السوري بشكل عام أقرب إلى المدرسة الصوفية، من نواحي انفتاحه واعتداله وجمع مواعيد الصلاة... إلا أنّ الدم، وللأسف، يغيّر المعادلات أحياناً»، يقول ناشط دمشقي سنّي معنيّ، كغيره من الحاضرين في جلسة «الحديث الطائفي»، بالعمل الميداني، في مجالات الاعلام والتعبئة والتحرك والامداد اللوجيستي إلى «الجبهات»، وتأمين التواصل وأكياس الدم والهويات المزورة لتمكين عبور صحافيين وناشطين على الحواجز الأمنية.
يشعر مَن يطيل الأحاديث مع المعنيّين المباشرين بالحراك السوري، بشقّيه المدني والعسكري، أنهم باتوا متأقلمين مع فكرة أنّ الأمور «لن تنتهي قريباً»، وأنّ كلمة عام جديد من الأوضاع المشابهة لأشهر العام الأول، باتت منطقية وغير مستبعَدة.
بناءً على ذلك، بالنسبة لهؤلاء، فإنّ الاستراتيجيا، إن وُجِدَت، «يجب أن تنطلق من هذا الواقع وهذه الحسابات التي بات فيها انتظار التدخل الخارجي أشبه بانتظار غودو الذي لن يأتي، على الأقل قريباً». الحرب الأهلية مستبعَد حصولها وفق هؤلاء، «لكن كل شيء وارد بسبب النظام أساساً»، وخصوصاً في «الخاصرة الضعيفة» مذهبياً، حمص. كل شيء وارد «شرط أن يكون منطقياً». جواب سريع على «محاولة صحافية» لجسّ نبضهم إزاء ورقة «تقسيم سوريا» الدارجة هذه الأيام. «تقسيم؟»، يسألون باستهجان. تنقلب الأدوار لحشر صحافي آتٍ من لبنان يضيع في خريطة الجغرافيا والطوائف السورية مع كل اسم مدينة ومنطقة ترمى أمامه لشرح كيف أنّ فكرة تقسيم في سوريا هي الأكثر استحالة ربما في المنطقة بأكملها. يردّدون أنّ «التاريخ يثبت الاستحالة، كذلك الجغرافيا والسوريون». يقفز أحدهم ليقطع الحديث «المنطقي»: لماذا لم يتحدثوا عن خطر تقسيم تونس واليمن ومصر والبحرين... لماذا الأخطار محصورة عندنا؟
قصص وروايات أهل الحدث لا تنتهي. تحاول فهم إلى أي مدى سيكون نفَس هؤلاء الشبان والشابات طويلاً، ولا تلمس العناد إلا برؤيتهم يحاولون لساعات طويلة، الاحتيال على رجال الأمن لتنظيم تظاهرة في حي الميدان بدمشق مثلاً. خبرة هؤلاء الشباب وقدراتهم على ابتكار أساليب سلمية وعسكرية تكبُر، وهم يعوّلون على احتمال وصول حركتهم إلى أهل الأقليات، وعلى أن تقلّ أخطاؤهم وخطاياهم، المميتة منها والمغفورة، بشكل موازٍ لضغط التجار، وليتحوّل الغضب الشعبي من الغلاء والبطالة والفقر وغياب خدمات أساسية، إلى فعلٍ على الأرض ضدّ النظام. يدرك شباب الحراك المدني والعسكري أنّ «ثورتهم» دخل عليها ألف عامل وعامل، وأن الداخل والخارج باتا متداخلَين إلى درجة كبيرة، وأن الانتهازيّين الساعين لقطف ثمار عملهم كثُر أيضاً، وأنّ المخاطر تحيط ببلدهم بالفعل، لكنك تسمعهم يكرّرون أنهم ليسوا معنيين إلا بمواصلة العمل اليومي للوصول إلى هدفهم وبالوسائل المتاحة لأنّ «مَن ينظّر علينا من الخارج بكيفية وجوب العمل لا يعاني ما نعانيه نحن».



حرب العصابات وفرض التسوية

يقرّ ناشطون مدنيون، وآخرون لهم علاقة بالعمل العسكري ضدّ النظام، بأنّ مبدأ الجبهات بين «الجيش الحرّ» والجيش السوري النظامي كانت ولا تزال غير متكافئة، وخصوصاً لأنّ كلمة «الجيش الحر» لا تعني أكثر من لافتة عريضة لفرق من المنشقّين والمدنيين الذين انضمّوا إلى هؤلاء، منقطعين، في كل منطقة و«جبهة»، عن أي نوع من التنسيق والمركزية من ناحية الأوامر والتجهيز والتسليح، سواء كان ذلك تابعاً لقيادة العقيد رياض الأسعد أو للعميد الركن مصطفى الشيخ... من هنا، يشدد هؤلاء على أنّ «حرب الاستنزاف والعصابات» هي التي توجِع النظام أكثر. قراءة تتناقض مع معارضين غير ناشطين على الأرض، ويقتصر نضالهم السلمي اليوم على الاجتماعات والنقاشات والقراءات وحلقات الحوار والمجموعات الفكرية. فلدى هؤلاء «المعارضين جداً» حذر مردّه معلومات تفيد بأنّ القيادة الروسية «تطبخ» حلاً ما، أو مبادرة جدية بالتنسيق مع دمشق، تقوم على مبدأ «التسلم والتسليم على الطريقة اليمنية من داخل النظام نفسه طبعاً، بموازاة إجراء إصلاحات حقيقية أمنية وسياسية واقتصادية وقضائية لا شكلية مثلما هي الحال عليه حالياً، لكن كل ذلك بعد القضاء على الحركة المسلحة بشكل كامل».
كلام معناه أنّ المأزق كبير، بما أنه لا الحركة العسكرية والمدنية المعارِضتان مستعدّة للعودة إلى الوراء، ولا النظام مستعدّ لتقديم أي «تنازُل» قبل أن يهدأ كل شيء. أصلاً، «حتى لو تمّ التوصل إلى تسوية شبيهة بالتسلم والتسليم بين أركان النظام، سيكون صعباً إقناع مقاتلي حرب العصابات بها».