بقدر ما كرهنا شعار «... أولاً»، فإن الأمر مع الإمبراطورية القَطرية مختلفٌ؛ فـ«قطر أوّلاً» يعني أفول الدور المسموم لإمبراطورية افتراضية، نشأت جراء اللقاء الاستثنائي لعناصر عديدة متعارضة ـــ وإنْ شكلياً ـــ توحدت في مشروع إقليمي مروّع، عنوانه قطر.
إنما، منذ اليوم، سيكون على الأمير الجديد، تميم بن حَمد، أن يعالج ثلاثة تحديات كبرى، عنوانها، جميعاً، «قَطر أولاً». التحدي الأول اقتصادي ـــ مالي؛ فالجموح القَطري، خلال العقد المنصرم، للتوسّع في الاستثمار في السوق العالمية والإقليمية، وفي مجالات لا تبدأ بالغاز ولا تنتهي بالمولات، تجاوز الخط البرتقالي للخطر، ويتجه صوب الخط الأحمر؛ فالحجم الكلي للاستثمارات القَطرية لم يعد ممكناً احتساب مداه الفعلي، ولا موجوداته، ولا شبكاته، ولا المخاطر المحيقة به، ولا قدرة الخزينة القَطرية على الوفاء بالالتزامات المترتبة على تورّماته. ورغم أن الاستثمارات القَطرية، كما يقول اقتصادي أردني، لا يمكن الإحاطة بها وتفكيك خيوطها، إلا أن المؤكد أن حجمها أصبح أكبر من القدرات المالية القَطرية. والشاهد أن قَطر تستدين، الآن، بسعر فائدة عال بالمعايير الدولية هو 5 بالمئة، ما يدلّ على الاضطرار، ربما المؤقت، لتمويل هذا الالتزام الاستثماري أو ذاك، ولكنه دالّ. إن الشروع في استثمار ما لا يعني تمويله بالكامل، وإنما تسديد نسبة من إجمالي الاستثمار، بينما يتحوّل الباقي إلى مديونية ملزمة. وسيكون على الشيخ تميم، الآن، تنفيس البالون، وإعادة هيكلة الاستثمارات القَطرية، وإلا فإن قَطر ستواجه انهياراً مالياً، أو أقلّه أزمة مالية شبيهة بأزمة دبي.
التحدي الثاني يتمثل بمستقبل قطاع الغاز؛ فسواحل المتوسّط حبلى بمخزون من الغاز، من شأنه، في غضون السنوات القليلة المقبلة، أن يغيّر معادلات الاستثمار والإنتاج والأسعار والأنابيب والنقل الخ. الغاز هو المستقبل القريب في مجال الطاقة؛ فهو أرخص وأكفأ وأقلّ إضراراً بالبيئة من النفط، وإنتاجه بكميات ضخمة وعلى نطاق واسع وتوزيعه في شبكات دولية وإقليمية من الأنابيب والناقلات، سيحلّه محلّ النفط. بالنسبة إلى روسيا ـــ الإمبراطورية الحقيقية التي تدرك مخاطر وفرص مرحلة الغاز الآتية ــت فإنها تتحضّر للمستقبل من خلال خوض الصراع الدامي في سوريا ـــ والمنطقة ـــ حتى النهاية، ومراكمة قوى الأسطول في البحر المتوسّط، وبسط السيطرة المالية على قبرص، وهيكلة علاقة العصا والجزرة مع إسرائيل. وفي هذه المواجهة الكبرى، وضعت الدوحة، كل إمكاناتها المالية والإعلامية وعلاقاتها الاستخبارية وأدواتها من الإخوان والإرهابيين و«المثقفين»، قبل أن تصطدم بالجدار، وتكتشف أن الإمبراطوريات الافتراضية ليس لها مكان في عالم الإمبراطوريات الحقيقية؛ فالصراع تحدّد الآن بالقوتين العظميين، روسيا الاتحادية والولايات المتحدة. وقبيل الذروة بقليل، وجد الأميركيون أنه لم يعد، هناك، إمكانية لدور قَطري خاصّ؛ فالولايات المتحدة سوف تمسك بالملفات مباشرة، وعلى الدوحة أن تضع قدراتها وشبكة علاقاتها، بالكامل، بين يدي المندوب السامي الأميركي الذي أبلغ الحَمدين بقرار الاستغناء عن خدماتهما.
وهنا يأتي التحدي الثالث أمام الشيخ تميم. وهو إعادة هيكلة العلاقة مع واشنطن على أساس الالتزام الحرفي بالمتطلبات اليومية للسياسة الأميركية، والامتناع عن المبادرات، والتموضع، عربياً، في إطار مجلس التعاون الخليجي تحت القيادة السعودية. يلقي هذا التحوّل بأعباء كبيرة على الشيخ تميم الذي سيكون مضطراً إلى إقناع أصدقائه الإخوان المسلمين بنهاية الهامش الذي يميّز حركتهم السياسية عن النهج الأميركي. من الآن وصاعداً، لن يكون هناك ذلك الهامش، لقوى الإسلام السياسي و ـــ خصوصاً ـــ حركة حماس (وكذلك «للمفكرين» و«المثقفين» و«الإعلاميين» التابعين للدوحة). لا يعني ذلك أن قطر في عهد تميم سوف تتخلى عن شبكة أصدقائها وتابعيها، ولكن سيكون عليهم من الآن وصاعداً أن يتفهّموا أن الدور القطري قد أَفُلَ، وأنهم مضطرون إلى الظهور العلني في الخط الأميركي أو المغادرة إلى منازلهم.
الأردن هو المستفيد رقم واحد من التغيير في قطر؛ فالشيخ تميم هو صديق للملك عبد الله الثاني، وصديق شخصي لأخيه الأمير علي. وكان الشيخ تميم، دائماً، الوسيط القطري المقبول في عمان التي تكنّ عداءً وازدراءً شديدين لرئيس الوزراء القَطري، حمد بن جاسم الذي كان يحلم، بدوره، بريع أردني يخوّله النفوذ ويمنحه الترحاب في عاصمة الملك حسين، العدو القديم للحَمدين.
المسؤولون الأردنيون مرتاحون كلياً لتسلّم الشيخ تميم السلطة في الدوحة، وتحت إشراف مباشر من الأميركيين، يعني ذلك نهاية الأجندة القَطرية الخاصة بالأردن، ودفع الإخوان إلى التعاون مع السلطات، والأهم الحصول على المساعدات القَطرية التي حُرم منها الأردن طويلاً.
الفوائض المالية الضخمة، والسلطة المطلقة في مجتمع قبلي صغير جداً، والخيال السياسي الجامح لشخصية مركّبة، أرادت، رغم انتفاء جميع الشروط الموضوعية، أن تبني دوراً إقليمياً ودولياً للإمارة الخليجية الهامشية التي لا يمنحها التاريخ ولا تعطيها الجغرافيا، ولا يساعدها الحجم، ولا يسعفها الإرث الثقافي، لأن تحتلّ أكثر من الجلوس في ظل العباءة السعودية. نحن نتحدث، بالطبع، عن شخصية حمد بن جاسم، الشخصية المحورية في الأسطورة القَطرية التي انطلقت عام 1995 من انقلاب قصر لم يتم الالتفات إليه، لتنتهي وهي تفرض سطوتها على الجامعة العربية، وأكبر دولها (مصر)، وتشن حروباً على دولتين من دول الأنظمة القومية، ليبيا وسوريا، وتهدد الجزائر، وتتحكم بالثورتين، التونسية والمصرية، وبحركة حماس، وتمدّ يدها الطويلة في أرجاء العالم العربي، تخاصم السعودية، وتعادي الأردن، وتلعب في الساحة اللبنانية الخ.
حرية الحركة، من دون اعتراض داخلي أو قيود اجتماعية ـــ سياسية ـــ ثقافية، وفائض الثروة، أغريا الحَمَدين، بالثورة على الستاتيكو العربي، وكانت الاستخبارات البريطانية، وإسرائيل، والإخوان المسلمون على موعد مع «الجزيرة»/ الجغرافيا ـــ التي أمّنت نفسها بمظلة سياسية وقاعدة عسكرية أميركية. وأطلقت، في وعي مبكّر للقدرات الإعلامية السحرية للتلفزيون الفضائي، وعلى رأسها تحويل الهامشيّ إلى مركزي، وتركيب المشهد الباهر الذي يوظّف الصورة والكلمة والمراسلين والمثقفين والمناضلين والمعارضين وشيوخ الدين وفلسطين والحدث والذاكرة، للسيطرة على العقول والقلوب، وتشغيلها، في الوقت المناسب، لفرض الوهابية كأيديولوجيا «للثورات العربية»، وتظهير ممكنات الصراع المذهبي، وإشعاله، وتسخير الإرهاب، والمال دائماً، لخدمة إمبراطورية افتراضية، ارتطمت بالجدار السوري، فإذا بها تنكشف عن مستعمرة هامشية.