ثلاث ملاحظات على الوضع في سوريا، وتطوراته. أولاً، يُعدّ الحراك التسووي الأخير، وراء «حل سلمي» للحرب الدائرة في سوريا، نتيجة من نتائج المعارك الأخيرة، التي شهدتها العاصمة السورية وريفها منذ أسابيع، والتي أظهرت علو كعب الجيش السوري ميدانياً، والتأكيد مجدداً، على أنّ المعارضة المسلحة في سوريا، على اختلاف انواعها وتشعباتها ومشاربها، غير قادرة على الحسم الميداني.
مع ذلك، لا يبدو أنّ «تواضع» الولايات المتحدة، والقبول بالجلوس على طاولة البحث عن «حل سلمي»، قد وصل بالفعل إلى حدود التسليم بالحقائق التي أوضحها الميدان والمعارك العسكرية الأخيرة.
صحيح أنّ المعارك أظهرت صعوبة تحقيق المصالح الأميركية من خلال الحسم العسكري المباشر، إلّا أنّ تواصل القتال، لا يُخسر أميركا كثيراً، ومن شأنه أن يحقق مصالح أميركية أخرى، بأن يبقي الطرف الآخر، بدءاً من إيران، ووصولاً إلى لبنان، مشغولاً في الساحة السورية، في موقع الدفاع عن النفس، رغم ما في ذلك من خطورة، على المديين المتوسط والبعيد، لجهة المصالح الأميركية في المنطقة. يضاف إلى ذلك، أنّ تواصل القتال، يحقق للأميركيين، ما دون اسقاط النظام، تجميع الجهات المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، في نفس الساحة، وإشغالها فيها: أيّ، محاربة الأعداء بالأعداء.
وتجميع الجماعات المتطرفة الاسلامية، وتركيز نشاطها في الساحة السورية والاقتتال فيها، من منظور أميركي، يُعدّ هدفاً مطلوباً لذاته، بعيداً عن اسقاط النظام أو عدمه، خاصة أنّه يحقق، إضافة إلى اشغال جميع الأعداء في الاقتتال، هدوءاً من قبل «الجماعات المتطرفة»، في الجبهات والساحات الأخرى، وهو ما يمكن القول أنّه تحقق بالفعل.
من هنا، وعلى هاتين الخلفيتين، يأتي الحراك الأميركي الأخير، والقبول مبدئياً بحلّ سلمي، لا تسووي، أي دون أيّ دور للرئيس السوري بشار الأسد في هذا الحل. ومن دون أي تنازل، مهما كان بسيطاً. لا استعجال أميركي للحلّ من دون تحقيق كل المصالح الأميركية في سوريا، ومنها باتجاه المنطقة. ويمكن لواشنطن أن ترضى بانتقال سوريا من نظام معاد إلى آخر، بصورة غير عسكرية، دون حسم عسكري، وهذه هي رؤيتها للحل السلمي، لكن في حال لم يتحقق ذلك، فلا بأس بمضي القتال قدماً.
ثانياً. خطاب الرئيس السوري، بشار الأسد، أوضح لكلّ من يريد أن يجلس على طاولة البحث عن حلّ سلمي أو تسووي للأزمة في سوريا، أي تجاه الأميركيين والروس، وغيرهما، بأنّ لا حلّ في سوريا، سلمياً أو تسووياً، من دون الأسد، وتحديداً ما يمثله وجود الأسد في الحلّ. على من يجلس على طاولة المفاوضات، أن ينطلق، أيضاً، من المنعة التي أظهرها النظام وجيشه في الأسابيع الأخيرة، وبالتالي لا يمكن أن يعطى الأميركيين، ما لم يستطيعوا انتزاعه عسكرياً.
ولم يكن بإمكان الأسد، أن يقف ويتحدث بقوة وحزم، لو لم يكن مستنداً إلى القدرة الميدانية التي أظهرها الجيش السوري أخيراً، والحقائق الميدانية التي فرضها على الأرض. ومن هنا كان منطلق الخطاب الأخير، والرسائل الأسدية التي تضمنتها: لم يصل الميدان إلى حدود دفع الأسد وما يمثله في سوريا، إلى الاستسلام، كما لم يصل إلى حدود فرض الشروط والقبول بحلّ سلمي، يتطابق مع ما يمكن أن يحققه الحل العسكري.
في نفس الوقت، تحدث الأسد إلى الجهات التي حافظت على دور مساند للنظام في سوريا، طالباً منها أن لا ترضى بحل لا يتوافق ويتلاءم مع المعطيات الميدانية، وفي مقدمتها، عجز المعارضة المسلحة عن الحسم.
بمعنى آخر، جاء خطاب الأسد، ليعلن وفاة أيّ مبادرة تسووية، يحكى عنها، دون مراعاة الوقائع الميدانية. سواء كانت حلول معلنة أو غير معلنة، يجري التفاوض عليها، أو هي في طور ذلك.. وبالتالي مكّن الجانب الروسي، من الجلوس على طاولة المفاوضات، من موقع أكثر قوة من ذي قبل، وليس باتجاه البحث عن تسوية تتضمن أو لا تتضمن دوراً للأسد فيها، بل البحث، وتركيز البحث، انطلاقاً من عدم القدرة على القفز فوق الحقائق الميدانية، ومنها، استعداد النظام السوري، للذهاب بعيداً في مواجهة، ثبت أن لا قدرة لأعدائه على الحسم فيها. ولعلّ هذه هي إحدى أهم الرسائل، التي تضمنها خطاب الأسد أخيراً.
من هنا، فإنّ توصيف أعداء سوريا بأنّ خطاب الأسد منفصل عن الواقع، هو توصيف مردود. من شأن الخطاب يظهر للآخرين، بأنّ البحث عن حلّ غير عسكري للحرب في سوريا، لا يراعي الوقائع على الأرض، يبقى هو لا غيره، منفصل عن الواقع.
ثالثاً. يبدو أنّ مهمة الموفد العربي ــ الدولي إلى سوريا، الأخضر الإبراهيمي، قد انتهت بالفعل، وسينضمّ إلى سلفه، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، سواء استقال أو أقيل أو بقي موفداً بلا فعل. تصريحاته الأخيرة ضد الرئيس السوري، تؤكد أنّه وصل بالفعل نهاية المهمة وإلى الفشل فيها، والتي لم تكن في الأساس سوى تعبير، غير سافر، عن توجهات الاعتدال العربي ــ الغربي بقيادة الولايات المتحدة، للحلّ المنشود من «الاعتدال» والغرب، للحرب في سوريا.
خطاب الرئيس الأسد، أظهر أنّ مهمة الموفدين، أنان والإبراهيمي، وأيّ موفد مقبل، والتي لا تراعي الأسس والثوابت التي حدّدها الأسد، وفي مقدمتها الحقائق الميدانية على الأرض، لن يكتب لها النجاح. أما السعي خلف جهد دبلوماسي يحقّق ما لم تحققه أو تستطيع أن تحققه، الخيارات العسكرية، فهي مساع لن تجدي نفعاً.
وعلى أساس احتضار المهمة، وقرب الاعلان عن موتها، تأتي مواقف وتصريحات الإبراهيمي الأخيرة، التي ساق فيها كل ما يلزم ضد الرئيس بشار الأسد، ليكشف في ذلك انحيازه الكامل إلى جانب موفديه والمعارضة المسلحة في سوريا. ويعني ذلك، أن لا «وساطة» إبراهيمية بعد الآن، ولا رحلات مكوكية بين الجانبين المتحاربين، ولا عروض بحلل جديدة، لرحيل الأسد.. سواء بقي الإبراهيمي موفداً، أو لم يبقَ.