أرض طينيّة شبه فارغة. سكانها قليلون في أسفل جبال تحيطها، وبما أن البحر أمامهم، اعتاشوا على ركوب أمواجه وصيد أسماكه. عُرفت بعين الحلوة لأن فيها عيناً غزيرة المياه وحلوة المذاق. تغيّر ذلك بعد نكبة شعب فلسطين عام 1948. ارتحل إليها في بادئ الأمر خمسة آلاف لاجئ. بعد ستة أشهر ارتفع العدد إلى ثمانية آلاف. وعند سنوية النكبة الثانية أصبحوا 20 ألفاً بسبب الولادات الجديدة وقدوم الباحثين عن مأوى. ليصبح مخيم عين الحلوة: عاصمة الشتات.
■ ■ ■

بحث اللاجئون عن ذويهم وأبناء بلداتهم وقراهم. فتجمّع أهالي بلدة حطين، لوبية، وصفورية، وسكنوا جنوب المخيم. أهالي الزيب، المنشية، عمقا، غوير أبو شوشة، ونمرين، نصبوا خيامهم غرب المخيم. أمّا في شرقه وشماله، فأهالي الطيرة، الرأس الأحمر، السميرية، الصفصاف، عكبرة، وطيطبا. وعائلات أخرى من قرى ومدن في شمال فلسطين سكنت في أنحاء متعددة من المخيم. نقلوا معهم مهاراتهم وطقوسهم اليومية وكذلك خلافات أيام البلاد. لكن «المصيبة تلمّ»، فتكاتف اللاجئون اجتماعياً وإغاثياً. فمن أخرج معه أموالاً من فلسطين لم يسكن في المخيمات. هكذا هي الطبقية بأبهى صورها، فالمخيم للفقراء فقط. أمّا ميسورو الحال في عين الحلوة، فلم يقبلوا بخيام الصليب الأحمر الدولي ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، فاشتروا الطوب والصفيح وبنوا مسكناً داخل المخيم على أمل أن تكون التغريبة لأسابيع ومن ثم يعودون من دون إذلال. وحينها من كان لديه سرير ينام عليه، يطلق عليه مصطلح «الزنغيل» أي أنه يملك مالاً. مضحك الأمر حين تفكر فيه: إنه مجرد سرير وعليه فراش.
■ ■ ■

كانت الخيام في الشتاء تبدو وكأنها حواكير صغيرة، بينها قنوات مشتركة لتصريف المياه خارج المخيم ثم إلى البحر، وتُحاط بساتر ترابي لا يتعدى ارتفاعه 30 سم لكي يصدّ عنهم ماء المطر. وفي الصيف يشبك اللاجئون خيامهم بحبال ليدخل الهواء إليها وكذلك لنشر الغسيل، وهنا يعود الناس لمعرفة من «الزنغيل»: من يملك أكثر من غيار غير الموزّع من «الأونروا» فهو في قمة الرفاهية.
وبدأ كل واحد يزرع أمام خيمته، أي في أقل من متر مربع واحد، بعضَ الخُضر لتساعدهم في تحسين طعام المعلبات من «الأونروا»، وبنت الوكالة مرافق صحية بدائية من الزنك كمراحيض مشتركة للنساء وأخرى للرجال. وأنشأت مدرسة ابتدائية عبارة عن خيمة كبيرة، ووظّفت لها معلمين من المخيم بأجور شهرية. كما أقامت مستوصفاً صحياً، وكان الطبيب سوري الجنسية والممرضون فلسطينيين. وشرع بعض اللاجئين بشراء خيام لاستعمالها كدكاكين لبيع المواد الأولية والسجائر وبعض الصحف.
■ ■ ■

منذ البداية، اجتمع نفر من كبار السن والشيوخ في المخيم وانتخبوا الحاج جمعة الأنصاري مختاراً لهم. وكان شيخاً في الخامسة والستين من عمره، وجاء لاجئاً من قرية الخصاص شمال فلسطين حيث اجتاحتها العصابات الصهيونية عام 1947 واستشهد 10 أشخاص منها. كان الأنصاري يمثّلهم لدى السلطات اللبنانية ويقضي بينهم بالحق ويُعرّف بهم ويشهد على زواجهم وطلاقهم وميلادهم وموتهم ويصادق على وثائقهم، بعد اعتماده من وزارة الداخلية اللبنانية. وبنى اللاجئون مسجداً متواضعاً، حاراً جداً في الصيف وبارداً قارساً في الشتاء، وسمّوه «مسجد عمر». وفرشوه بالحصير وسقفوه بالطين وزرعوا أمامه الرياحين والنعناع. وشغل اللاجئون بعض الدكاكين لممارسة بعض الأعمال اليدوية كالحدادة والنجارة وتصليح الجزم وبوابير الكاز وبيع الحبوب. وفتح بعض الشباب دكاكين للخدمات كالكواء والسباكة والحلاقة. وكان الحلاقون يختنون الأطفال الذكور بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع. وفتح نصرالله الشرقاوي فرناً لبيع الخبز وأطلق عليه اسم «الرغيف الذهبي»، وافتتح أكثر من شاب محالَّ للعصير والحلويات ومطاعم لبيع الفول والحمص والفلافل. وكان أهالي صيدا يأتون إلى المخيم لأكل «القدسية» و«المسبحة». ومع الزمن بدأ سكان المخيم يكتفون ذاتياً فلا يضطرون لطلب ما يريدون من سلع وخدمات من خارج المخيم. وهكذا بدأ التواصل بين أهالي المخيم ومدينة صيدا. فعاشروهم وأتجروا معهم وناسبوهم وتعاطفوا معهم سياسياً. وخرج جزء كبير من شباب المخيم للعمل في صيدا ولا سيما في صيد الأسماك. ومنهم من ذهب إلى بيروت وعاد بالبضائع وتوسّع في التجارة. فأصبح عين الحلوة جزءاً تجارياً من صيدا ونواحيها. ولكنّ فلسطينيي المخيم ظلوا مميّزين ومفروزين عن بقية المجتمع الصيداوي.
وكأنّ من يريد تشويه صورة وسمعة المخيم أراد أن يقول: من هذا المخيم خرج فدائيون وتقدّموا نحو وطنهم بالعمليات الفدائية، ليتحوّل إلى «بانيو إرهابيين»؛ فالمطلوب هو تدمير الشخصية الفلسطينية وليس حجارة المخيم فقط


في منتصف المخيم، أنشئ مقهى من الطوب والزنك باسم «القهوة المُرة» لصاحبها جبر العكاوي، وهو لاجئ من عكا. وكان شباب المخيم وشيوخه يجتمعون فيه بعد العصر وبعد صلاتَي المغرب والعشاء. وكان فيه راديو مفتوح طوال النهار، إمّا على «إذاعة إسرائيل» أو «صوت العرب» أو «إذاعة لندن». فمن «إذاعة إسرائيل» يسمعون الأخبار ويستمعون إلى برنامج «رسائل المستمعين إلى ذويهم»، وهو أشهر البرامج الإذاعية والوسيلة الوحيدة لمخاطبة الأهل والأقارب في الأرض المحتلة. وكانت النساء يأتين في موعد البرنامج ويجلسن بعيداً بعض الشيء عن باب المقهى، ويرفع العكاوي صوت الراديو لكي يسمعن البرنامج. وكُن كثيراً ما يبكين وينتحبن عندما يسمعن صوت قريب أو حبيب يناديهن من خلف الحدود.
أمّا مقهى «القهوة المُرة»، فكان مكاناً رئيسياً ومركزاً لمختلف نشاطات المخيم، فيه أكثر من 20 طاولة من خشب السقالات و70 كرسياً من القش. وكانت المناقشات السياسية والاجتماعية تدور فيه، والمواعيد تتم به. وكثيراً ما شهد المقهى مناقشات سياسية حادّة بين فئات متضاربة الأهواء، أدّت إلى التضارب بالكراسي وقلب المقهى على رأس رواده.

■ ■ ■

قصفت طائرات الاحتلال مخيم عين الحلوة قبل عام 1962 وبعده، كردّ على عمليات الفدائيين ممن عملوا تحت راية حركة «فتح»، حيث نشأت كفكرة عام 1955، وبدأت خلاياها تتكوّن في خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ثم تبلورت كتنظيم سري في عام 1958. في المقابل، كان فدائيون يناضلون وينفّذون هجمات تحت راية «حركة القوميين العرب»، وقتها أصبح لها أعضاء وأنصار أكثر من «فتح»، وسُمّيت في البداية «شباب الثأر» ثم انبثقت منها «هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل». واعتُبرت نشرة «الثأر» الصادرة في عام 1949 أول نشرة للمقاومة الفلسطينية. وأصبح مخيم عين الحلوة هدفاً للهجمات الإسرائيلية من وقت إلى آخر، وكلما اشتد هجوم الفدائيين عليهم في جنوب لبنان. فقرّر شباب المخيم بناء ملاجئ متفرقة تحت أرض المخيم، وأحاطوها بأكياس من رمل شاطئ صيدا. وعلّقوا في داخلها الفوانيس، وكتب بعض الحزبيين على جدرانها عبارات وطنية تتحدّى الإمبريالية الأميركية والصهيونية. بعد ذلك تحوّل المخيم إلى ساحة حرب، كما عبّر عنها الشهيد ناجي العلي، في مرحلة مبكرة جداً من عمره الفني، عندما رسم في مجلة «الطليعة» الكويتية عام 1963 على لسان امرأة فلسطينية من لاجئي عين الحلوة، تقول لجارتها وكلتاهما تحملان طفلين في أيديهما: الله يخليلك إياه... أنا عندي تسعة صبيان وبنتان.. الأربعة كفوا تعليمهم... واحد ع الأربي جي واثنين ع الهاون والرابع متفجرات..! (معلومات مذكورة من كتاب: أكله الذئب - السيرة الفنية للرسام ناجي العلي/ للكاتب شاكر النابلسي/ إصدار عام 1999 عن المؤسسة العربية للنشر).
■ ■ ■

عاش اللاجئون في تلك الحقبة بين الطموح بالعودة والوضع الاجتماعي الصعب من جهة، والمراقبة الأمنية من «المكتب الثاني» ومنع الدخول والخروج إلى المخيم إلا بإذن من جهة أخرى. تحكّمت السلطات اللبنانية بحياة اللاجئين، فكان القمع الأسلوب الأوحد في التعامل. وكان التحوّل الكبير حين حضرت الثورة الفلسطينية بقواتها ومعسكراتها إلى لبنان. كانت انتفاضة مجتمعية أكثر منها مرحلة تحرّرية لفلسطينيي لبنان. هنا انخرط شباب المخيم في الثورة وحملوا البنادق، يعني أنهم امتلكوا قوة وسلطة: اللاجئون أصبحوا فدائيين. هذا ينطبق أيضاً على اللبنانيين المتضررين من الحكم القائم، فكانت نهضة للمسلمين بمذاهبهم في وجه النظام. وبعيداً عن الخوض في غمار الحرب الأهلية وأسبابها ونتائجها، إلا أن عين الحلوة شهد في حقبة الثمانينيات تقلبات بين القوة والضعف، بين الهجوم والدفاع، بين صراع الهوية والهدف.
حاصر جيش أرئيل شارون مخيم عين الحلوة عام 1982. صمد الفدائيون 17 يوماً، وعند نفاد الذخيرة تحوّل الفدائيون إلى أسرى في معسكر أنصار أو شهداء في المقابر. تدمّر المخيم وأعادت النساء إعماره، حتى سُمّي بـ«مملكة النساء» وفقاً لتوصيف المخرجة دانا أبو رحمة في فيلمها التسجيلي. لتعود المعارك فيه وعليه بحرب المخيمات ومواجهات شرق صيدا، حتى أتى اتفاق الطائف لإنهاء حرب لبنان، وما تبعه من تغيرات في في الإقليم والعالم من ثورة في إيران وحربها مع العراق، وانهيار جدار برلين، وسقوط الاتحاد السوفياتي، والأهم كان مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو.
■ ■ ■

تغيّر عين الحلوة كما تغيّر العالم. فشل مشروعٌ ونهض آخر. فتغيّرت الأيديولوجيات والتوجّهات. فليس مستغرباً أن يتحوّل الشيوعي إلى إسلامي سلفي وسط حرب أفغانستان، ويبدّل اليساري أفكاره نحو اليمين، ولا سيما مع ظهور حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي». ومن دون مقدّمات، ظهرت تنظيمات إسلامية بتوجّهات مختلفة، منها الإخواني والسلفي الدعوي والجهادي، فلا مشكلة بتدمير النصب التذكاري لابن المخيم ناجي العلي، وبدل صور جمال عبد الناصر وياسر عرفات وجورج حبش تُعلّق صور عبدالله عزام وأسامة بن لادن وسامر السويلم (سيف الإسلام خطاب) وشامل باسييف. هنا اختلفت المرجعيات ولها أدواتها الجديدة. وكانت النقطة الفاصلة حين أسّس هشام شريدة، بعدما كان في حركة «فتح» وشارك في معركة مغدوشة الشهيرة، تنظيماً أسماه «عصبة الأنصار»، وتنبثق عنه لاحقاً تنظيمات أخرى. وبدّل اسمه من الفدائي أو المناضل إلى الشيخ والأمير المجاهد. إنها حقبة التسعينيات، ومرحلة هدوء لبنان وإعادة الإعمار، إلا أن المخيم لم يهدأ بين اغتيالات واشتباكات، وتحويله إلى صندوق بريد بين الأطراف الفلسطينية واللبنانية والإقليمية. وتأثّر أبناء المخيم بكل ما يحدث في العالم، ولأن البيئة خصبة لكل التجاذبات وجسم المخيم «لبّيس» لكل ما يمكن أن يحتمله أو لا يحتمله، حوّلته السلطات اللبنانية المتعاقبة إلى بؤرة أو جزيرة أو إلى «بانيو» (حوض استحمام) يجتمع فيه كل المطلوبين للقضاء. هذا «البانيو» مطوّق من كل الاتجاهات وبجدار عالٍ وبكاميرات وأبراج مراقبة وجنود بكامل عتادهم على مدار الوقت، ولذلك يطلق أهالي المخيم على وضعهم وكأنهم في «غوانتانامو» أو «جلبوع». إنه سجن على مساحة كيلومتر مربع وفيه أكثر من 80 ألف نسمة. ومع ذلك يمكن للمخيم أن يصدّر مقاتلين باقتناع أو حسب الطلب إلى الخارج، وكذلك أن يستقبل مطلوبين. وذلك بمعرفة من يطوّق المخيم وأجهزة أمنية محلية وربما دولية.
■ ■ ■

صحيح أن كل تنظيم فلسطيني لديه أتباع في المخيم، وكذلك التنظيمات العابرة للجنسيات والحدود. ويمكن أن يظهر تنظيم جديد، أو ينشقّ عن آخر. ويبقى عين الحلوة فلسطيني التوجّه والانتماء. لكنّ الصراع أكبر منه دائماً، ولطالما كان أهله ضحية رسائل، وكأنّ من يريد تشويه صورة وسمعة المخيم أراد أن يقول: من هذا المخيم خرج فدائيون وتقدّموا نحو وطنهم بالعمليات الفدائية، ليتحوّل إلى «بانيو إرهابيين»؛ فالمطلوب هو تدمير الشخصية الفلسطينية وليس حجارة المخيم فقط. هنا وجب التفكير... من هو القائل ومن هو المنفّذ؟ وبسهولة تامة يمكن مقارنة ما كُتب لنهر البارد أو اليرموك أو فلسطينيي العراق وليبيا أن يُقرأ في عين الحلوة. لذلك، صيرورة المخيم منذ تأسيسه تفيد بأن الأجداد حوّلوا الخيام إلى معسكرات تدريب، ويجب على الأحفاد أن يعودوا إلى الخيام الأولى، ويحمل كل لاجئ خيمته ويقطع البحر أو يموت بواقعه، وفي الحالتين يجب أن ينسى حق العودة. هذه الخيمة معنوية أكثر منها مادية، فمن يريد تشتيت اللاجئين إلى أبعد نقطة عن بلادهم يعرف أن من يتحكّم بمصير المخيم ليس الفلسطينيون فقط، إنما جهات معروفة ومجهولة. ولعلّ اللاجئين يرفعون الصوت يوماً: لن نكون ضحية مستمرّة.