أضيفت إلى أجندة العالم مناسبة جديدة، يمكن أن يتكلّم عنها جد لأحفاده في أقاصي العالم. نيل ستة أسرى حريتهم بالملعقة، ليس الفعل مجازياً أو تخيلياً، هذا ما حصل داخل أعتى معتقلات إسرائيل المسمى «جلبوع»، حيث نجح ستة أسرى بالكسر. الكسر الذي لم يقم منه الكيان حتى اليوم، ولن يقوم، فالسؤال عن كيف فعلوها، سؤال سيبقى يدور ويدور في رؤوس ساسة إسرائيل ولن يتمكن أحد في العالم أن يجيب عن السؤال، إلا من ناضل أو يناضل من أجل الحرية في فلسطين وكل العالم. عام على ذكرى «نفق الحرية» النفق الذي رأت الشمس منه حرية الإنسان
في فجر السادس من أيلول من العام الماضي، استفاقت فلسطين على خبر، استفاقت على حجر، ستة أسرى من سجن جلبوع، تحرّروا من الأسر، والاحتلال في صدمة، ولأول مرة منذ سنوات، الفلسطينيون في فرح عارم، في الداخل والشتات، والاحتلال فاقد للقدرة، عاجز عن التفسير. بأدوات بدائية، تمكّن الأسرى الستة من حفر نفق الحرّية، وخرجوا من السجن الحصين الذي أعدّ لهم كمقبرة. البطولة هي عنوان اللحظة، والاحتلال مسكون دوماً بمفهوم البطولة، فهو وحده المتفوّق كما يدّعي، وهو وحده القادر على الإنجاز، والقادر على السيطرة، فرار الأسرى أفقده كل ذلك، وأجبره على إعادة النظر بكل ادعاءاته؛ ليشكل لجنة تحقيق، ليفهم كيف حدث كل هذا؟ يخلي السجن من الأسرى ويذهب مسرعاً لتفتيش كل السجون، بحثاً عن أنفاق أخرى.
(رؤوف الكراي)

سنة تقريباً، مرت على عملية نفق الحرية وتحرّر أسرى جلبوع، تحلّ علينا، وتحلّ معها الذكريات، هي محاولة ربما لم يكتب لها النجاح الكامل، لكنها حققت الكثير من أهدافها، ومن يعرف المحتل كيف يفكر، وكيف يدير أموره نحو الأسرى الفلسطينيين، يدرك مدى التأثيرات التي تركتها تلك المحاولة في وعيه، والسؤال الكبير الذي لا يزال مشرّع الأبواب، كيف تمكّن الأسرى الستة من تنفيذ مخططهم؟ سؤال يطرحه صنّاع القرار السياسي والأمني على أنفسهم، وهم يحاولون تلمّس الإجابة، لكنها إجابة خاطئة، فالعقل الأمني للاحتلال يحاول تقديم إجابة حول عملية الفرار بالمعنى المادي، الملموس والمحسوس، بينما سؤال الدافع الفعلي يغيب لديهم تماماً، لأنه سؤال يعرّي الاحتلال أمام نفسه، فالحرية كقيمة عليا ليست موجودة في قاموسه، فيفترض أن الأسرى الفلسطينيين يفتقدون الحيوية الإنسانية، وعليهم الخضوع لقدر صنع وتربى بأيديهم.
يفزع الاحتلال، ستة من الأسرى غادروا زنزانتهم قبل طلوع الفجر، غادروا بملء إرادتهم من دون استئذان، بقرار الحرية، وبفعل واعٍ ومنظّم ودقيق، محمول بقرار وتخطيط وتنفيذ، بعدما استعدوا سنة كاملة، حفظوا السجن عن غيب وحفظوا السجان، عرفوا نقاط ضعف المكان، وضعف السجان، وهنا برز الوعي الفلسطيني الذي يخشاه الاحتلال، ويحاول تجنبه.
الاتجاه يسير عكس مشتهى الاحتلال، الأسرى اليوم موحّدون مسكونون بالأمل، فالجميع اليوم ملتفّ حولهم


أبناء الأرض استعانوا بها، فحفروا عميقاً في الأرض، لأيام وأشهر، ليلاً ونهاراً يتناوبون على العمل، التعب جزء من مهمة البحث عن الحرية، والسجّان غافل أعمى، يفتش الزنزانة يومياً، ولا يجد شيئاً أمامه، مغافلة ناجحة عن جدارة وتستحق الثناء، والأسرى يعدّون أنفسهم للخروج، يطوّعون أجسادهم ليخرجوا من فتحة النفق.
محمود العارضة، زكريا الزبيدي، أيهم كممجي، محمد العارضة، يعقوب القادري ومناضل انفيعات، أسماء ستة، حفظناها عن ظهر قلب. ففي السادس من أيلول من العام الماضي، تمكنوا من انتزاع حريتهم، والخروج من نفق الحرية، في رحلة استمرت عدة أيام، مشياً على الأقدام، تنقلوا في سهل بيسان، مرّوا على مرج بن عامر، ثم صعدوا أعلى جبال الناصرة، دوّنوا رحلتهم، أكلوا من ثمار الأرض، ووصفوا لنا طعمها، وافترشوا الأرض وناموا، كانت فلسطين هي الحقيقة الماثلة أمامهم، لم تعد فكرة، ففي رحلة الحرية ترى فلسطين كاملة دون نقصان، فلسطين بأهلها كانت معهم، تنتظر أخبارهم، لعلّهم وصلوا إلى مبتغاهم، والعدو المستنفر بجنوده وعتاده يقلب الأرض بحثاً عنهم. الاستنفار الذي عمّ شمال فلسطين، يوحي بأن حرباً كبرى اندلعت، الطائرات تحوم بالمكان، شرطتهم وجنودهم، وآلياتهم، ووحداتهم الخاصة، قصاصي الأثر، الكلاب البوليسية، كل هذا، وأربعة أيام بلا خبر جديد، سوى تمكّن الستة من الخروج من قلعة أمنية كانت تفاخر بها دولة الاحتلال. الاحتلال الذي يفقد صوابه، ويعيد طرح السؤال من جديد، كيف فعلها الأسرى؟ سؤال يحبس الأنفاس، والإجابة في ذلك الوقت محبوسة ومطوية في صدور الأسرى.
أيام قليلة من الحرية، لكنها بعمر الأسرى سنوات طوال، هكذا وصفوها، محمود العارضة العقل المدبر لنفق الحرية كان العنوان، ربع قرن داخل السجن لم يثنه عن التفكير، الحرية قصيدته التي تلاها قولاً وفعلاً، لم تنجز المهمة تماماً، ولم تكتمل تماماً، بعد إلقاء القبض على الأسرى، لكن ما حصل، أن الستّة، حفروا عميقاً في ذاكرة شعبهم ووجدانه. فبأيام قليلة، كانت الكتائب المسلحة تتشكل في كل المدن والمخيمات والقرى وعلى امتداد الضفة، أعاد الأسرى الأحرار بفعلهم رسم خريطة الوطن من جديد، كسروا أوهام الانقسام، لهذا كان الاحتلال يدرك خطورة ما فعلوه، وتأثيره على وعي الشعب الفلسطيني، تحت عنوان الفعل المقاوم هو المعادل الموضوعي للحرية والحياة، لهذا يستمر السجّان بعقابهم إلى الآن، ويستمرون هم بتحدّيه.

التحدّي المستمر
يدخل الأسرى، نحو ألف منهم، مرحلة الإضراب عن الطعام، وأول مطالبهم إخراج الأسرى الستة من زنازين العزل الانفرادي، إضراب الأسرى عن الطعام قد يعمّ كل السجون قريباً، ولهذا الإضراب خصوصيته، فالشعب الفلسطيني، وكل قواه ملتفّة حولهم، ترعاهم وتساندهم، لهذا أجهزة أمن الاحتلال تقدّر في تقاريرها أن انتفاضة كبرى ستعمّ الضفة الغربية إذا استمر إضراب الأسرى، انتفاضة مسلحة عنوانها الأسرى، كل هذا بفعل أبطال نفق الحرية.
ويبقى السادس من أيلول من العام الماضي محطة فاصلة في تاريخ الأسرى، وضعت قضيتهم على رأس الأولويات لكلّ الفصائل الفلسطينية المقاتلة، قضيتهم هي جدول الأعمال في أي تفاوض على تبادل الأسرى، وعلى رأسهم أبطال نفق الحرية الستة، الذين اكتووا بنار السجان، فبعد حادث فرارهم، استهدفت عائلة كممجي واستشهد شأس شقيق أيهم، كذلك عائلة الزبيدي، باستشهاد داود شقيق زكريا، فضلاً عن منع عائلاتهم من زيارتهم حتى هذه اللحظة، فيما الأسير يعقوب القادري يعاني أمراضاً خطيرة، ترفض مصلحة السجون علاجه. هذا الكمّ الكبير والهائل من الضغط على الأسرى وعائلاتهم هدفه الوحيد عزلهم عن بيئتهم وجعلهم عبرة كما يعتقد الاحتلال. لكن الاتجاه يسير عكس مشتهى الاحتلال، الأسرى اليوم موحّدون مسكونون بالأمل، فالجميع اليوم ملتفّ حولهم، يعيش ويتابع ويتفاعل مع قضيتهم؛ وكيف لا، وهم عنوان الكفاح الفلسطيني الدائم والمستمر منذ عقود.

في الذكرى نستلهم العبر
قبل 35 عاماً من الآن، استفاقت غزة على وقع خبر مفرح، بعدما تمكّن ستة أسرى من انتزاع حريتهم والفرار من سجن غزة المركزي، أيام وأشهر والعدو يبحث عنهم، ويبحثون عنه، فلم يكتفِ الستّة في ذلك الوقت بالهرب والاختباء، بل سنّوا سنة جديدة، حيث تقدموا الصف، قاتلوا واستشهدوا في «معركة الشجاعية» في السادس من تشرين الأوّل عام 1987، وتحوّلوا إلى رموز وأيقونات تركت بصمتها. فبعد شهرين من استشهادهم، كانت فلسطين على موعد جديد، تستعيد وعيها بفعل انتفاضة الحجارة التي اندلعت شرارتها على بعد أمتار من مكان استشهاد أبطال معركة الشجاعة، وعمّت الانتفاضة الوطن وانخرط فيها الكل الفلسطيني. وبعد حادثة سجن جلبوع، أعاد أبطال نفق الحرية البوصلة إلى وجهتها، فها هي الضفة الغربية تقف على مرجل يغلي، فالأسرى حاضرون رغم الغياب، هم جزء أصيل من مكونات الشعب الفلسطيني، ينحتون بآلامهم طريق الخلاص، فحريتهم المسلوبة جزء من الحرية الكبرى المسلوبة من أبناء شعبهم، قاتلوا وتقدموا الصفوف، وقدّموا زهرة شبابهم داخل قلاع السجن، فتحوّلوا إلى القدوة، سكنوا كل درب، وسلاحهم الإضراب عن الطعام، والتحرّر من الأسر إذا استطاعوا إليه سبيلاً.
غداً سيأتي محمود إلى عرابة يطوف عليها بيتاً بيتاً، يعود إلى حضن أمه، حاملاً إليها العسل، كما أراد، بيديه ليداوي به أوجاعها. يأتيها وهو يدرك أن جيلاً جديداً تربّى على هذا الوعي، وقد حمل الراية، فهو أمام حقيقة ثابتة، «إمّا فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل» ستبقى حقيقة ثابتة.