نجحت عملية نفق الحرية بأن تكون من أكثر عمليات المقاومة تعقيداً وصعوبة في العقود الماضية. خلقت العملية تداعيات أمنية وسياسية وعسكرية، ليس داخل كيان الاحتلال فقط، وإنما في الشارع الفلسطيني. لا تزال تفاعلاتها مستمرة حتى اليوم، وفي تصاعد. فقد استطاعت هذه العملية كسر هيبة أمن الكيان الصهيوني، وحولت أجهزة استخباراته إلى أضحوكة أمام العالم، لفشله المركب، بداية من جهله بنوايا الأسرى ومخططهم في الهروب من السجن، وجهل أي تفاصيل عن عمل الأسرى الممتد عبر أشهر في حفر النفق، تبعها فشل آخر في ملاحقة الأسرى لأيام في مناطق ساقطة أمنياً، تنتشر فيها دوريات الجيش والشرطة، وكاميرات المراقبة، وطائرات الاستطلاع، من دون أن يحظى الأسرى بأي نوع من المساعدة. وأكثر من ذلك، استطاع اثنان منهم الوصول إلى جنين مجتازين العراقيل والحواجز الأمنية كافة.وفي الذكرى السنوية الأولى لنفق الحرية، تبدو الصورة اليوم أكثر وضوحاً إزاء التداعيات التي خلقتها العملية في الشارع الفلسطيني، وأهمّها تنامي المقاومة المسلحة في مدن الضفة الغربية التي انطلقت شرارتها الأولى من مخيم جنين، عقب العملية.
شكلت معركة «سيف القدس»، التي بدأتها المقاومة الفلسطينية في غزة أيار 2021، بقصف مدينة القدس بعدة صواريخ، واستهداف دورية عسكرية قرب حدود غزة بصاروخ كورنيت، فرصة أمام مجموعة من المقاومين في مخيم جنين للبدء بالعمل العسكري المقاوم، إسناداً لغزة، وتأثراً باتساع رقعة المواجهة في الضفة الغربية والداخل المحتل. ولعب الشهيد جميل العموري، دوراً كبيراً في التأسيس للعمل المقاوم في مخيم جنين، وهو عمل استمر واتسع حجمه وزخمه بعد استشهاده في 10 حزيران في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في شارع الناصرة بمدينة جنين. وأسهم العموري، الذي بدأت قوات الاحتلال مطاردته مع مجموعة من «سرايا القدس» بعد «سيف القدس»، في تشكيل خلايا عسكرية ليس في مخيم جنين فقط، بل في مدن أخرى مثل مدينة نابلس، التي شهدت أيضاً في ما بعد ولادة خلايا مقاومة، وعلى إثر ذلك لقّب بعد استشهاده بـ «مُجدِّد الاشتباك» لدوره في تحفيز الشبان على تنفيذ عمليات إطلاق النّار، والاشتباك مع الاحتلال.
وإذا كانت «سيف القدس» قد شكلت البيئة المناسبة لولادة مشروع المقاومة من جديد في الضفة الغربية، إلا أن عملية نفق الحرية، كانت السبب المباشر في تأسيس عمل عسكري منظم وموسع، استطاع فرض معادلة في ما بعد ولا يزال كذلك.
وعلى ضوء عملية نفق الحرية، وما فرضته من حاجة إلى توفير حماية للأسرى، أُعلن في أيلول 2021، للمرة الأولى، عن تَشَكل «كتيبة جنين»، وهي الظاهرة التي انتقلت سريعاً إلى مدن أخرى كنابلس، وشجعت الكثير من الخلايا العسكرية في بلدات وقرى الضفة على الانتقال للعمل المقاوم كما حدث في سلواد ومخيم بلاطة وروجيب.
وعبّرت «كتيبة جنين» في بيانها العسكريّ الأول عن استعدادِها للانضمام إلى «معركة الأسرى»، باحتضانهم في المخيّم والدفاع عنهم. وعلى مدار الأيام التي تلت العملية، وملاحقة الاحتلال للأسرى، نفّذت الكتيبة ما أطلقت عليه «فعاليات الإرباك»، التي تمثّلت في تنفيذ عمليات إطلاق النّار على الحواجز المحيطة بمدينة جنين، والخروج في مسيراتٍ عسكرية داخل المخيّم، لإسناد الأسرى، ولتشتيت تركيز الاحتلال في البحث عنهم.
خلقت عملية نفق جلبوع حالة نضالية عارمة، في محافظة جنين التي ينتمي إليها الأسرى الستة، بينما سلط الضوء على مخيم جنين الذي ينحدر منه أحد أبطال العملية، وهو الأسير زكريا الزبيدي، قائد «كتائب شهداء الأقصى»، في ظل تحريض الإعلام العبري عليه، والزعم أن هدف الأسرى هو التوجه إلى المخيم والتحصن فيه، نظراً لوجود مقاومة يمكن أن تسهم في حمايتهم.
أعادت العملية الوهج للحالة النضالية لمدينة جنين ومخيمها


ودفعت عملية «نفق الحرية» أجنحة المقاومة المسلحة في المخيّم للتوحد من جديد، استعداداً لمواجهة كبيرة كانت تلوح في الأفق، نظراً لتهديدات الاحتلال باجتياح المخيم بشكل واسع، بالإعلان عن إحياء «غرفة عمليات مشتركة» للمقاومة على غرار ما كان قائماً خلال معركة 2002، وأعلنوا «النفير العام» دفاعاً عن الأسرى والاستعداد لمواجهة أي اقتحام لمخيم جنين.
وفي ضوء ذلك، المناخ المتنامي بالفخر والمقاومة، دأب المقاومون في مخيم جنين على تنظيم مهرجانات التأبين للشهداء، وتنظيم مسيرات عسكرية، بمشاركة مسلحين من «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، و«كتائب شهداء الأقصى»، الجناح المسلح لحركة «فتح»، و«كتائب عز الدين القسام»، الجناح المسلح لحركة «حماس»، في وقت كان المخيم يشهد بين فترة وأخرى اشتباكات مسلحة عنيفة مع قوات الاحتلال.
نجحت عملية «نفق الحرية» في تسليط الضوء على مظلومية الأسرى الفلسطينيين؛ وكما بعثت الدم في شرايين المقاومة في الضفة الغربية، وزرعت الإرادة، استطاعت تعزيز صورة المقاومة في غزة، التي خرجت قبل عملية النفق بعدة أشهر بصورة المنتصر القوي من معركة «سيف القدس»، لترسخ صورتها وجدواها حين أكدت أن أسرى «نفق الحرية» باتوا على رأس قائمة الأسرى المطلوب تبادلهم في أي صفقة تبادل محتملة.
لقد راكمت عملية نفق الحرية على بناء الوعي الجمعي وذاكرة المقاومة، وجدوى مواجهة الاحتلال، بخاصة لدى الأجيال الصغيرة الذين لم يعيشوا أحداثاً جساماً كما الانتفاضة الثانية، وزرع أبطال العملية في الشارع الفلسطيني، معنويات كبيرة وشعور بالنصر والعزة والقوة، على الرغم من اعتقالهم لاحقاً، وقد تنامى ذلك النفس المنتصر بما كتبه الأسرى لما عايشوه خلال أيام حريتهم.
وأعادت عملية «نفق الحرية» الوهج للحالة النضالية لمدينة جنين ومخيمها، بالتزامن مع عودة العمل العسكري فيه، مع تحريض الإعلام العبري والمستويات الأمنية الإسرائيلية ضده، وإطلاق مصطلح «عش الدبابير عليه» والتحريض لاجتياح المخيم وتنفيذ عملية شبيهة بالسور الواقي 2002، الأمر الذي دفع فصائل المقاومة في غزة، للتهديد والتلويح بتدخلها على غرار معركة «سيف القدس»، فارضة معادلة جديدة للاشتباك، كان مخيم جنين أحد مدخلاتها.
وقال عضو المجلس الثوري لحركة «فتح»، الأسير المحرر جمال حويل «إن عملية نفق الحرية جاءت بينما الشعب الفلسطيني يعيش حالة إحباط بسبب انسداد الأفق السياسي، وظروف الانقسام والوضع الاقتصادي العام، فجاءت عملية نفق الحرية لتعطي للشعب الأمل ونفس البطولة والنجاح». ورأى أن عملية نفق الحرية، أكدت أن الأسرى في سجون الاحتلال لا يفكرون إلا في الحرية، وكما قال الزبيدي «إن الذين لا يفكرون بالحرية لا يستحقونها، ولا يستحقون أن يكونوا مناضلين»، ولذلك كانت عملية النفق، بمثابة أمل للأسرى ولشعبنا، إذ استطاعوا، رغم قلة الإمكانيات، من قهر الاحتلال وإجراءاته الأمنية المشددة، وتجاوز سجن جلبوع ذو الترتيبات الأمنية العالية جداً. واعتبر حويل أن عملية «نفق الحرية»، بلورت وعياً جمعياً لدى شعبنا، بأنه قادر على العطاء والنجاح بشرط الإعداد والتوحد، كما أثبتت أن الاحتلال هش ولديه نقاط ضعف كثيرة، إذا تم استغلالها، يمكن اختراقه وهزيمته. وأشار إلى أن جنين كانت تاريخياً عاصمة المقاومة، والحاضنة لكل عمل مقاوم ضد الاحتلال، لذلك سعى الاحتلال بعد عملية نفق الحرية إلى ضرب روح المقاومة، من خلال عمليته التي سمّاها «جز العشب» ومن بعدها «كاسر الأمواج»، بهدف عدم نقل نموذج جنين إلى مناطق أخرى، لكن النتيجة نراها اليوم في مخيم بلاطة والبلدة القديمة في نابلس، وفي روجيب وسلواد وطوباس، التي تحولت إلى نقاط مقاومة ساخنة لا تقل عن مخيم جنين. ولفت إلى أن أرضية العمل المقاوم في مخيم جنين موجودة، وكذلك الوعي الجمعي لدى الناس بضرورة المقاومة وأهميتها والتمسك بها، وجاءت عملية «نفق الحرية» لإزالة الغبار عن المقاومة التي كانت بحاجة إلى إرادة لتنطلق، فجاءت العملية وزرعت هذه الإرادة والدافعية والشجاعة لدى المقاومين.
ومع حلول الذكرى السنوية الأولى للعملية، لا يزال أبطالها داخل السجون يتعرضون لعمليات قهر وتنكيل واسعة من قبل سلطات السجون، في محاولة لكسر إرادتهم، من دون أن ينجحوا في ذلك. إذ يقول مهندس العملية محمود العارضة في آخر رسائله «نحن في العزل الانفرادي داخل زنازين العدو نسير على الجمر من دون أن نخاف الحرق، قلوبنا تتألم لتحرير فلسطين، نطالب بالحرية وسنحصل عليها رغم أنف العدو عن قريب».
وفي خارج السجون، لا تزال تداعيات «نفق الحرية» تتسع مقاومة وفدائيين وبنادق، حيث سجلت عمليات إطلاق النار في الضفة منذ بداية العام حتى شهر آب رقماً قياسياً، بواقع 60 عملية إطلاق نار، بينما شهد العام الماضي تنفيذ 50 عملية إطلاق نار، وعام 2020 نحو 48 عملية.