خلال الاجتماع الأخير للدول الضامنة لـ«مسار أستانا»، والذي عُقد على مدار يومين في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان قبل نحو 10 أيام، أظهر المندوب الروسي إلى الاجتماع، المبعوث الرئاسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، نبرة حادّة غير مسبوقة على طاولة المفاوضات، مُوجّهاً نقداً لاذعاً إلى سلوك المعارضة، التي حمّلها مسؤولية فشل الوصول إلى أيّ اتفاقات حتى الآن، من شأنها الدفْع بالعملية السياسية قُدُماً. ولم يكتفِ لافرنتييف بتلك الانتقادات، بل تابع هجومه عبر تصريحات إعلامية لاحقة، حذّر فيها وفد المعارضة السورية إلى «اللجنة الدستورية» من محاولات فرْض أجندات تستهدف تغيير السلطة في سوريا، مُذكّراً بأن مسألة «إسقاط النظام» مضى عليها الوقت، وأن ما يجب التفاوض حوله اليوم هو تفاصيل تكتيكية في الدستور، الأمر الذي اعتبرته المعارضة «إعلان وفاة للجنة الدستورية».التصريحات الروسية الجديدة العالية النبرة، جاءت بعد تزايُد التحرّكات الأميركية على خطّ الملفّ السوري، لإعادة تشكيل التحالف المعارِض للحكومة، وتقويض المساعي الروسية الهادفة إلى إنهاء الأزمة، خصوصاً بعدما بدأت تُثمر هذه المساعي خروقات، لعلّ أبرزها إتمام التسويات في الجنوب وعودة العلاقات السورية - الأردنية، والانفتاح الإماراتي على دمشق، والمساعي الجزائرية - الأردنية - الإماراتية، وحتى المصرية، لإعادة سوريا إلى مقعدها المجمّد في «جامعة الدول العربية». هكذا، بدأت الولايات المتحدة العمل على مسارات عدّة متوازية، أوّلها تحريض «الإدارة الذاتية» الكردية على إفشال المساعي الروسية لعقْد حوار بينها وبين دمشق، بعد سلسلة لقاءات أجراها مسؤولون أميركيون مع مسؤولي «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، وذراعها السياسية «مجلس سوريا الديموقراطية» (مسد)، تعهّد خلالها هؤلاء بتجديد الدعم العسكري والمالي للأكراد. أمّا المسار الثاني، فيهدف إلى لملمة شتات المعارضة المتشرذمة، وإعادة تنشيط فكرة «إسقاط النظام»، بما يتوافق مع الموقف القطري المُعارِض لأيّ تقارب مع دمشق، وأيضاً الموقف السعودي الذي عبّر عنه بوضوح المندوب السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة، عبدالله المعلمي، قبل نحو أسبوعين، حيث هاجم الحكومة السورية، بعد فترة من الضبابية التي وسمت رؤية بلاده بخصوص عودة سوريا إلى «الجامعة العربية».
بالتوازي مع ذلك، وقّع الرئيس الأميركي، جو بايدن، على المسار الثالث، مشروع القانون «1605» لتفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2022، والذي تضمّن عدة نقاط تتعلّق بسوريا، من بينها تخصيص مبلغ 177 مليون دولار للوحدات المقاتلة ضدّ تنظيم «داعش»، يذهب الجزء الأكبر منه إلى «قسد». كما دعا المشروع إلى «التقصّي عن ثروة الرئيس السوري، بشار الأسد، وأسرته خلال مدّة لا تتجاوز 120 يوماً»، و«تقييم جهود الولايات المتحدة لمنْع التطبيع مع الحكومة السورية، إلى جانب منْع عودة سوريا إلى الجامعة العربية»، ما يعني السعْي لعرقلة أيّ تقدم سياسي لمصلحة دمشق. وبخصوص العلاقة مع تركيا، والتي لا يزال البرود يسيطر عليها، ثمّة توافق ضمني على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، بما يكفُل المصالح الأميركية من جهة، ويضمن لأنقرة استمرار احتلالها لمناطق عدّة في الشمال السوري، مع إفساح المجال أمامها لتنفيذ ضربات جوّية بين وقت وآخر تستهدف قياديين في «قسد». وسط هذه المتغيّرات، دعمت أنقرة والرياض والدوحة، ومِن خلفها واشنطن، تَحرّكات جديدة للمعارضة، يقودها رئس الوزراء السوري المنشقّ، رياض حجاب، الذي دعا إلى عقْد مؤتمر في العاصمة القطرية يضّم معارضين من منصّات عدّة، أبرزها «الائتلاف السوري»، بالإضافة إلى مراكز بحثية، بهدف الخروج بخطة موحّدة تعيد لملمة شتات المعارِضين، وترجع بجهودهم إلى مرحلة «إسقاط النظام»، والتي تجاوزتها سوريا منذ سنوات عدّة، ولم تَعُد الظروف الميدانية ولا السياسية مناسِبة لطرحها.
إزاء ما تَقدّم، تدرك روسيا أن المحاولات الأميركية، التي تَعرف واشنطن ومعها الحلف الذي تقوده أنها لن تتمكّن من إعادة الزمن إلى الوراء، إنّما تستهدف إفشال مسارات حلحلة الأزمة، وإطالة أمد حالة «اللاحرب واللاسلم». ومن هنا، يُفهَم إصرار موسكو ودمشق على أن خروج الولايات المتحدة من سوريا يُعتبر الخطوة الأهم في مسار التسوية، وإصرار واشنطن في المقابل على إدامة إدخال المساعدات عبر الحدود، والتصدّي لمساعي روسيا لحصرها عبر دمشق، وذلك بهدف ضمان استمرار الكيانات الموجودة، وبقاء الأوضاع الحالية.