للحظة واحدة فقط، ونحن نسلك طريق الأوزاعي المظلم، تساءلت في نفسي: كيف يستطيع هؤلاء الناس تدبير أمورهم، حين تأتي كهرباء الدولة ست ساعات، فيما تغيب كلياً في أيام الحرب؟ تساءلت مع أنني كنت أعرف، نظرياً، هذه «المعلومة» من محادثات سابقة مع أصدقاء لي، وكنت «أعرف» أن الساكنين على أطراف هذا الطريق، في منازل بنيت بطريقة عشوائية فوضوية، قد ألفوا فعلياً العتمة، في «دولة» تشرق فيها الشمس أكثر مما تشرق "اللمبة".بلال، الذي أتيت من أجله إلى لبنان، علي ورنا أصدقائي، ضحكوا حين بُحت لهم بذلك. قالوا: «نحن معتادون على "قلة خصيّة" الدولة، في الحرب وفي غير الحرب، نحن نعرف كيف ندبر أمورنا، الفوضى شيء عادي هُنا، وكل ما هو منتظم ليسَ عادياً. مع الأيام ستتحولين مثلنا إلى تمساح».

توارت هواجسي فجأة حين بانت لي إعلانات الطرق مكتوبة باللغة العربية... أخذت عيناي المعتادتان على اللغة العبرية، والمفتوحتان على مصراعيهما تتابعها. عيناي اللتان تحولتا إلى عيني فأر يُطل من إحدى نوافذ الصرف الصحي في شارع «طلعت حرب»، أحد أكبر الشوارع في القاهرة، تحاولان اكتشاف الدنيا، غير أنها تصل دوماً إلى طريق مسدود.
كانت سكينتي تتراوح بين لقائي المستحيل ببلال أخيراً، وبين الأشياء التي تشبهني إلى حدٍ مطلق، فتشعرني أن الحياة في لبنان ليست غربة مثلما هي في فلسطين، مع كل الأشياء التي لا تشبهني وتشعرني بغربة عن وطني وأرضي وأصدقائي الذين كلمّا هبط الحزن على قلوبهم، لجأوا إلى أغاني الصهيوني «إلي كوهن» يستمعون إليها على صوت عالٍ.
اللافتات المكتوبة باللغة العربية غمرت قلبي بسعادة لذيذة، أنا التي أتيت من مكان حين يُريد فيه العدو أن يعطينا نصيبنا من العربية، يكتب على لافتاته «أح يهود» (البروة بلد محمود درويش) و«شورطة» و«مسجاف عام»، ويخطئ عمداً في «شورطة» (التي هي شرطة بالأساس) مثلما يخطئ عمداً في منهاج اللغة العربية للمدارس، فيرتكب عشرة آلاف خطأ بين مطبعي ونحوي ولغوي.

أتذكر كمْ كنت سعيدة وأنا أشاهد ولأول مرّة في حياتي فيلماً مترجماً من الإنكليزية إلى العربية لا إلى العبرية، في إحدى دور السينما في لبنان، كان «Escape plan» الذي يتلخص بدور رجل محترف في ابتكار طرق للهرب من السجن، فيلماً جعلني أخرج من الصالة سعيدة كطفل يعبث بطائرة ورق فوق المروج، يتبعها قلبه المطمئن كفراشة تراقص الضوء.
في لبنان، كلمّا سرت في شارع يتحدث الناس فيه بالعربية، وتقدم محلاته قوائم طعامها بالعربية لا بالفرنسية أو الإنكليزية، أشعر بسحر غريب. فيما قد لا يعني ذلك في حساب بعض الناس هنا شيئاً على الإطلاق، فيلجأ بعضهم إلى الفرنسية أو الإنكليزية للتعبير عن أنفسهم، كحال أصدقائي في فلسطين، حين يهربون من لغتهم إلى العبرية شاعرين بعقد نقص بالغة أمام العدو، المحتل، المسيطر على كل مفاصل الحياة هُناك.
الاحتلال الذي كلما مشيت في بلادي جعلني أغوص في غربة عقيمة، وكلمّا دخلت إلى محل استوقفتني فيه لافتة تقول: «هذا المكان لا يُوظّف غير الجنود»، كل من ليس جندياً لا مكان له هُنا. وكلما أردت القيام بمعاملة رسمية، كتبت بيروت بالعبرية، وذيلها ختم عبري من إحدى الوزارات. وكلما أردت شراء ثياب أو طعام دفعت بالشيقل، وكلما أردت الذهاب من عكا إلى حيفا صادفني جندي على مقعد في حافلة.
يا الله! هل تسمعني؟ هل ترى الذي أكتبه؟ ربما لا تفعل. فكل الناس الذين يستشهدون في هذه اللحظة في سوريا والعراق وعلى حدود لبنان بفعل «الكفر»، قد لا يعنون في ميزانك شيئاً! ألم تتجاهل نداء تلك الطفلة التي رفعت القرآن إلى مكانة الجبين المقدسة، وهي تتوسلك أن تشفيها من السكري الذي يتسبب بإغمائها كلمّا ارتفع الأنسولين في جسدها، كالدعاء المرفوع إليكِ من الأرض إلى السماء؟
هل أكفر في اللحظة التي أسألك فيها ذلك؟ أنت الذي سددت خطاي ورافقتني من فلسطين إلى لبنان في طريقي الذي كان مستحيلاً؟
هل أكفر أيضاً وأنا أتساءل لماذا تدع أحد المحققين في سجون العدو، حياً حتّى اللحظة؟ وهو الذي فكر بنرجسية وحقد حين سألته لماذا السلام والسكينة شيئان ثمينان إلى الحد الذي يجعلنا ندفع كل هذا الدم لبلوغهما، فأجابني حينها: «كُتبَ عندنا في التوراة، أنه سيأتي زمن، يلعب فيه الرضيع مع الحيّة، والذئب مع النعجة. وحين يأتي هذا الزمن من السكينة والأمان والسلم... سأكون أيضاً أنا الذئب!»، لماذا لا توقف دقات قلبه؟ هذا النرجسي الحاقد الكريه، تماماً مثل الطريق المسدود الذي أبلغه كلمّا فكّرت كيف سأغدو تمساحاً، كما قال أصدقائي أنني سأتحول مع الوقت.
ولماذا لم تعطني القوة كي أغرس أظافري في عيني جندية صهيونية، سألتني ذات يوم وأنا ارتاد قهوة «أروما»، شو اسمك؟ فأجبت: بيروت... فعلقت بغضب: «إيزي شم ملخيتس!» (أي ما هذا الاسم الموتَّر؟)، في حين انسحبتُ، وبازدراء بالغ أمام عجزي عن فعل شيء، إلى مكان منزوٍ في القهوة التي لا شيء فيها يشبهني، وبكيت!

لم أكن أعرف حينها صديقي قاسم قاسم. لو كنت أعرفه، لكنت دعيت الله أن يكون معي في فلسطين، لكن الدعاء «وين بصرفوه؟» مع الـ «إف16»، قاسم الصديق الذي يحب فلسطين على نحو غريب لم أعهده في حياتي، يحبها كما يُرى الله في طفولتنا «لابساً عباءة بيضاء»، هو الذي يقنعني كلمّا وصلت إلى طريق مسدود أمام تحرير فلسطين بوجود الأمل.
أقرأ ذلك الذي كتبته في تاريخ 13/6/2015... أبكي فرحاً. اليوم هو تاريخ 13/6/2018، بلال علي ورنا وقاسم قاسم وابني جواد الجليل، وأبي وأمي وأخوتي وستي شفيقة المشاكسة، جميعنا نجلس على شرفة منزلنا في مجد الكروم، نشرب القهوة. أمي تجلب صندوقاً كنت أخفيه في غرفتي قبل أن أغادر إلى لبنان، وتقرر فجأة فضحي أمام أصدقائي «بيروت زمان كانت لمن تدخن تخبي علبها هون، وأنا كنت دائماً أكشفها»، نضحك، وتفهم جدتي المشاكسة ذلك متأخرةً فتعلق: «الله يلعن صليبك يا كافرة... كنتِ تدخني؟». نضحك مجدداً، يُسارع علي لدعوتنا إلى منزلهم في الغازية بالقرب من صيدا، تعترض رنا: «لا شباب عندي بالصرفند» (ناحية صور). يحسمها قاسم بشكل قاطع: «لا عندك ولا عندو... ببيتنا بعكّا».
في نهاية ذلك الأسبوع زرنا قاسم في بيته، على مدخل المدينة كُتب «عكّا» هكذا بالعربية. كان غريباً جداً بالنسبة لي قراءة تلك الكلمة المؤلفة من ثلاثة أحرف لا أكثر ولا أقل، تهجيتها كأي مبتدئ في تعلم الأبجدية العربية. كان غريباً جداً زوال الكلمة التي عبّرت عن عكّا لسبعين عاماً من الاحتلال: «عكو» أو «Acre» أو «עכו».
يومها تناولنا السمك في مطعم «خبز وسمك» المجاور لبيت قاسم، ثم مشينا عَ «الغربي»، وكنت أحدثهم ماذا كنت أفعل هنا وهناك، وكيف كنت أهرب من صفي في مركز «الأسوار» في عكّا لاصطياد السمك مع رفاقي، على الرغم من أنني لمْ أتقن الصيد في حياتي يوماً، ولمْ أنجح في اصطياد سمكة واحدة. ولمّا وصلنا إلى مركز شرطّة عكّا أشرت بيدي وقلت: «هون أول مرة حققوا معي... الحمد لله صار متحف. الله يخلي وزارة السياحة الفلسطينية!»