غزة | تزداد الأجواء المشحونة في غزة تصاعداً بين جمهور حركة «حماس» الذين يمثلون قطاعاً كبيراً، وبين الأنصار المتزايدين لتنظيم «داعش»، الذي يقول الأولون إنه يصوب سكينه إلى «حماس» والفلسطينيين في مخيم اليرموك في سوريا، وخاصة مع إقدام جهاز «الأمن الداخلي» التابع للحركة على اعتقال عدد كبير من هؤلاء، ولا سيما الذين يمدحون أفعال «داعش» عبر المنابر، ما دفع أنصار التنظيم السلفي إلى «التوعد بالرد».
وهكذا، انتقلت «حماس» من إدارة «الأزمة السلفية» إلى مواجهتها مجدداً، ولكن الحركة الإسلامية خففت وطأة المواجهة المباشرة في ظل أنباء عن إطلاق سراح عدنان ميط، الذي اعتقل قبل أسبوع، في خطوة «يفخر» فيها أنصار «داعش» في غزة بأنها كانت نتيجة بيانهم، الذي قالوا فيه: «نقول للحكومة في غزة، وخاصة جهاز الأمن الداخلي إن الضغط يولد الانفجار، فوالله لم يهنأ لنا العيش وإخواننا ومشايخنا في سجونكم... والخبر ما ترون ما لا تسمعون»، وذلك في وقت قالت فيه مصادر أمنية لـ«الأخبار»، إن الإفراج عن ميط جاء بعد توقيعه ورقة تعهد.
ولعل ما جرى دفع كثيرين داخل «حماس» إلى التنبيه من «الخطر غير المباشر» والمتمثل بحالة التأييد المتوسعة لـ«داعش» في صفوف الحركة، وخاصة ممن يعبّرون عن فرحهم بـ«انتصارات الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق.
تعقد «كتائب القسام» جلسات توعية فكرية لعناصرها من الشباب

ولا توجد إحصائية دقيقة لمعتقلي أنصار التيارات السلفية في القطاع، ولكن ما يدور الحديث عنه من «تجمع أهالي المعتقلين السلفيين في غزة» يقارب نحو 30 معتقلاً. وقبل ظهور «داعش» كان العشرات من هؤلاء المعتقلين لدى أمن غزة «مغرمين» بتجربة «القاعدة»، ونتاج خلافهم مع «حماس» خرجوا من صفوفها، العسكرية أو التنظيمية، ليؤسسوا ويلتحقوا بتنظيمات تأثرت بالفكر السلفي ــ الجهادي.
تفيد مصادر من داخل «حماس» بأنه «استعصى على أنصار الفكر القاعدي اختراق العلاقة بحماس، بل هناك عدد قليل منهم عادوا إلى حواضنهم التنظيمية بعد جلسات فكر مطولة». وفي المقابل، يفيد «أبو مجاهد»، وهو أحد المعتقلين السلفيين السابقين في سجون غزة، بأن «عدداً كبيراً من أنصار الفكر الجهادي في القطاع فرّوا إلى الخارج، وتحديداً إلى سوريا عبر تركيا (قبل عزل محمد مرسي في مصر)، وذلك بعد تسهيلات قدمت ليخرجوا من السجون التي يتلقون فيها سوء العذاب ويلتحقوا بالجهاد، لأنه تعذر عليهم تأسيس تنظيمات خاصة بهم هنا». وأضاف: «من بقوا يسعون إلى تكوين جماعة منظمة، لكنها سرعان ما تنفض... هناك بعض المحاولات خارج منظور الأمن في غزة».
وينكر عدد من السلفيين أنهم يسعون إلى محاربة «حماس»، ولكنهم يرون في مشاركتها في الانتخابات «حرمة»، وينكرون عليها العلاقة بإيران. يضيف «أبو مجاهد» أنهم لم ينصاعوا لما وصفها «المراجعات القسرية» التي أجراها مشايخ القطاع معهم وفي مقدمتهم رئيس هيئة علماء المسلمين في غزة، مروان أبو راس، مستدركاً: «خرجنا من السجن دون أن نبدل أو نغير، ولم ننخدع بما تحدث به علماء السلاطين».
ويقر قيادي في «حماس» بأنه أخيراً صار «عناصر من أصحاب الفكر المتشدد يرفضون الحوار معنا بدعوى أننا كفار وخارجون عن الملة»، مستدركاً: «ثمة توجه حاد وصارم يقضي بمتابعة كل العناصر التي يمكن أن تشكل خطراً وخاصة على العلاقة بمصر، ومع ذلك لن نغلق باب المراجعات الفكرية».
ولعل ما تؤكده «حماس» ووزارة الداخلية في الحكومة السابقة التابعة لها عن نفي متكرر لوجود «داعش» في غزة، فإن لدى «كتائب القسام» تخوفاً كبيراً من انتشار الفكر السلفي ــ الجهادي، باعتبار أن «الإنترنت لا يعزل غزة عما حولها». يقول أحد القادة في «القسام»، ويدعى أبو إبراهيم، إن الكتائب «تحرص على توعية أبنائها، ولا سيما مرحلة الشباب ممن يمكن إغراؤهم ببعض الشعارات كإقامة الخلافة... أبناؤنا يعلمون أن هدفهم إقامة الدولة المسلمة بعد زوال إسرائيل». جانب آخر لفت إليه «أبو إبراهيم»، وله علاقة بالتخابر مع الاحتلال، إذ أكد أنه «تبيّن تورط أجهزة أمنية إسرائيلية في إنشاء بعض الشبكات التي تدعي أنها مرتبطة بالقاعدة وداعش، فيما تجري البيعة بين الشباب وأمرائهم المزعومين عبر السكايب».
هو الأمر نفسه الذي أكده مصدر أمني كشف عن إلقاء القبض على «عملاء زعموا أنهم يأخذون تعليماتهم من القاعدة، ولكن خلال الفحص الإلكتروني تبين ارتباطهم بالاحتلال». وأضاف المصدر: «من المهمات التي أوكلت إليهم إثارة البلبلة واستهداف مراكز وعناصر بعينها تحت مسمى محاربة الانحراف».
مع هذا، فقد خرجت مسيرات علنية تحمل رايات «داعش» في غزة قبل أشهر وقد رجموا المركز الفرنسي في غزة بالحجارة، الأمر الذي ترك تساؤلات بشأنها وصمت الأمن عنها آنذاك. هنا يرد المتحدث باسم الشرطة، أيمن البطنيجي، بالقول إن الشرطة «تملك القوة الكافية لمواجهة أي محاولة لزعزعة الأمن»، نافياً وجود عمل تنظيمي لـ«داعش» في غزة. كذلك حذر من أنه «حتى هذه اللحظة لم يثبت تورط مناصري داعش في أي عمليات قد تضر بأمن المواطنين، وإن كانت بعض الشكوك تدور حول وقوفهم خلف بعض التفجيرات».
تعقيبا على المشهد، يرى خبراء أمنيون ومنهم مؤمن سويدان أن الحالة الفلسطينية لا يمكن أن تنمو فيها «داعش»، ليس لأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير مساعدة على ذلك، ولكنه يرى أن طبيعة القوة الأمنية وما تتمتع به الفصائل (فتح وحماس والجهاد الإسلامي) من شعبية كبيرة، تمنع انتشار الفكر السلفي. كذلك يرى إبراهيم حبيب أن الجهات المعنية «تصرفت بحكمة» مع المناصرين للفكر السلفي عبر «المناصحات والمراجعات الفكرية»، لكنّ انكشاف «داعش» في «حربه على أهل السنة أيضاً» سبب أقوى يزيد من الوعي المجتمعي اتجاه هذه الظاهرة.
إلى ذلك، أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة، إطلاق حملة لمواجهة «الفكر المتطرف» عبر خطب الجمعة، ولكن المحلل السياسي مصطفى إبراهيم كتب قائلاً إنه برغم ما جرى في مخيم اليرموك فإنه «حتى اللحظة لم يتكون موقف شرعي أو حتى سياسي واضح من حماس تجاه داعش وجبهة النصرة التي تلقى تعاطفاً كبيراً داخل الحركة التي نعت عدداً من أعضائها ممن قتلتهم داعش».




أصول الافتراق والمواجهة

برزت في غزة منذ عام 2008 ثلاثة مسميات للتنظيمات السلفية، أولها «جيش الإسلام» والثاني «جيش الأمة»، وثالثها وهو الأكثر شهرة: «مجلس شورى مجاهدي بيت المقدس ـ جلجلت»، إلى أن صدرت أعمال مرئية تحمل اسم «داعش ــ ولاية غزة» في الحرب الأخيرة.
أما «جيش الإسلام» الذي أنشأه القيادي السابق في «ألوية الناصر صلاح الدين»، ممتاز دغمش (اعتقله الأمن المصري في سيناء قبل شهر)، فهو يعلن «براءته» من أي ارتباط مع «القاعدة» أو «داعش»، من دون أن يخفي إعجابه بتجربة الأول، ولكن الأجهزة الأمنية تقول إنها تراقب عناصره ولا تسمح لهم بأي نشاط مخلّ داخل القطاع أو خارجه (سيناء).
«جيش الأمة» يقول، بدوره، إنهم جزء من «القاعدة» وليسوا من «داعش»، وينسبون أنفسهم إلى «جبهة النصرة» (الفرع السوري من القاعدة)، كما يذكر أحد قادتهم أن العلاقة بينهم وبين «القاعدة» علاقة أيديولوجية وليست تنظيمية.
وكان أول فصول المواجهة بين «حماس» ومجموعات موالية لـ«القاعدة» في مدينة رفح، جنوب غزة، عام 2010، بعدما أعلن من عرف بـ«أبو النور المقدسي» إنشاء «الإمارة الإسلامية» من داخل مسجد «ابن تيمية» هناك، هو ونائبه «أبو عبد الله المهاجر» الذي قدم من سوريا إلى غزة والتحق بـ«كتائب القسام» (الذراع العسكرية لحماس)، قبل أن ينفصل عنها ويلتحق بالمقدسي.
إمارة المقدسي لم يتجاوز عمرها عدة ساعات حتى أبيدت على يد «حماس» وقتل المقدسي والمهاجر، ومنذ ذلك العام تشدد الحركة على أنصار هذا التيار عبر حملات اعتقال متقطعة، وخاصة مع تكرار تفجير أماكن عامة كالمقاهي وغيرها. لكن الحادثة الفاصلة كانت حينما خطف متضامن إيطالي وقتل في غزة، فشنت حكومة «حماس» حملة أمنية انتهت بمقتل الخاطفين وحصر نفوذ السلفيين، لما سببه ذلك من إحراج دولي للحركة.