ما الذي علينا فعله في وجه المقتلة المستمرّة في الجزء الجنوبي الغربي من فلسطين، في قطاع غزة؟ مع كل محاولة للإجابة، أعود إلى نقطة الصفر، نقطة السؤال، تلك التي تجعلني أغضب، أكره، أبكي. السؤال القاتل، ماذا علينا أن نفعل؟ أن ندعم شعبنا، أن نؤيد المقاومة، أن نجمع المال، أن نحاول العناية بالناس عن بعد ما أمكن، أن نشارك بفعاليات من أجل فلسطين، أن ننظم فعاليات، أن نجلس مع الصغار لنخبرهم بما يجري، أن نكتب، أن نرسم، أن نعزف، أن نقرأ، أن نمثّل. كل تلك الأشياء، رغم معرفتي بأنها تحدث، وأن آلاف الأشخاص حول العالم يحاولون فعل أشياء كثيرة، وآلاف الطلاب الذين اعتصموا في جامعاتهم، وملايين البشر الذين خرجوا في تظاهرات في عواصم العالم (إلا العالم العربي) ومع مقالات (منها هذه) ونصوص تكتب كل يوم، لكن، كل هذا لا يضعنا في صلب الحدث مهما تتبعناه، ومهما انخرطنا بتفاصيل كالتي ذكرتها أعلاه، علماً أن بعضها تقوم بدور هائل على مستوى توثيق الجريمة، وتهيئة الملفات لمن يريد استخدامها في وجه القاتل. لكن للأسف، كل هذا لا يوقف القتل، ولا يمنع الموت.
ما يجرب الجميع حول العالم فعله ربما يشعرنا ببعض الراحة اللحظية التي ستذهب في لحظة أخرى، مع الأم والأب والطفل الشهيد الجديد، وستجعل واحدنا يبحث مرة أخرى عن أفكار ومبادرات وأمور أكثر إبداعاً، أكثر جدارة بالمحاولة، وتتكرر المحاولة مرة أخرى، وتتكرر الراحة اللحظية، ويتكرر الموت.
فالجريمة التي تجري أمام العالم كله كبيرة جداً، الموت فيها يميّز، فيحصد من أهلنا وشعبنا بالعشرات يومياً، لا يتوقف، آلة الحرب الإسرائيلية تلبّسه لقذائفها وتطلقه، فيحصد ما يحصد ويعود، يرتدي قذيفة جديدة وينطلق، وهكذا. فالتفاهم بين الموت وبين إسرائيل لا مثيل له، إلا في الجرائم الكبرى التي سجلها التاريخ القريب والبعيد. والموت الذي يميّز، لا يمايز بين صغير وكبير، يقتل النساء كما يقتل الرجال. يقترب من الأطفال، فيلهو بخدودهم الطرية، وأصابعهم الناعمة، فلن يقاوموه بأجسادهم الصغيرة، فقد يظنونه لعبة فقدوها منذ أشهر، وفجأة ينتهي وقت اللعب، فيشوه الموت وجه الطفل، يقتلع عيناً منه، يفصل يده أو رأسه أو رجله عن جسده، أو يسويه بالأرض، تتسرب روحه إلى السماء، وحينها يطمئن الموت، فيعود أدراجه لارتداء قذيفة جديدة، ورأس الجندي تحت خوذته، وهكذا يكمل حصاده بلا توقف.
إن الواقفين على أطراف الحدث، بعضنا كسول، وبعضنا محبط، وبعضنا يحترق، وبعضنا ينتصر، وبعضنا ينكسر. نحن الذين على أطراف الحدث، نتفرج على الحرب عبر الشاشات في بيوتنا، نشاهد الشهداء والجرحى، والأبنية المهدمة، نشاهد بعض فلسطين في ماضيها وحاضرها، وبعضنا من الواقفين على أطراف الحدث، نتابع الحرب من الصحف والمواقع الإلكترونية، وتطبيقات الخبر العاجل الكثيرة. لكن كل هذا، لن يعيد للطفل وجهه الجميل، ولن يعيد للأم طفلها، ولن يعيد للأب زوجته، وكل هذا لن يعيد أي شيء إلى أي شيء.
والكلام السابق، قد يبدو كلام انكسار، كلام ألم، كلام وجع. هذا صحيح ومن دون مواربة، فلا يمكن لبعضنا أن ينتصر على نفسه في كل الأوقات، هناك وقت نحتاج فيه إلى بعض الانكسار، نحتاج أن نعيد فهم إنسانيتنا، فكل هذا الموت قتل في كل واحد منا شيئاً. نحن البعيدون الذين لا نموت بفعل القذائف، نعاني الموت يومياً، أحياناً لكوننا لا نتعرض لموت أهلنا، لأن ليس فوقنا طائرة تنطح الغيم، وتنقض على الأرض بصواريخها، ونموت أحياناً لأن فينا عجزاً ننكره ونكرهه. والسؤال الدائم الذي نطرحه على أنفسنا، هل في وسعنا فعل شيء؟ ليتني أعرف. لكن ما أعرفه، أن الذي في وسعنا فعله ربما، على الأقل أن نستمر بالكلام عنهم كل يوم، كل ساعة، عند كل لقمة، عند كل شربة، وعند الصباح وعند المساء، علينا ألا نتوقف عن ذكر أهلنا في فلسطين، فالكلام عنهم شكل من أشكال رفع صوتهم عالياً، شكل من أشكال إحياء ذكرى الشهداء الكثر. علينا أن نتذكرهم كأنهم أسماء لنا، وكأنهم أرواحنا وأنفاسنا. علينا ألا ننساهم. وأعرف أننا إن نسيناهم في زحمة الحياة والانتظار والبحث عن دور، ستلعننا الحياة، ستلعننا السماء، سيلعننا الدم، وتلعننا البيوت التي وقعت، سيلعننا الشهداء.
وهل يعني ما سبق أن نسترخي للشعور بالهزيمة، لأنه ليس في وسعنا فعل الكثير لأهلنا في فلسطين؟ بالطبع لا. علينا أن ننظر أيضاً إلى هناك، إلى فلسطين، نظرة قوية ملؤها التحدي، لأن هناك في فلسطين، تقوم فلسطين من ترابها، وتنمو فلسطين أكثر، وتنجب «زعتراً ومقاتلين»، هؤلاء الذين يمتد وجودهم ما بين روح الشعب وروح الأرض. هؤلاء الذين ينصبون فلسطين على دمهم، يستحقون منا الحبَّين، حبنا لهم، لشعبنا، وحبنا للأرض التي نحن منها وفيها وإليها.