غزة | «واحدٌ وعشرون يوماًبعد مئةٍ من الجنون
نمتُ في خمسة
أماكنَ
على خمس وسائد
وأنا الذي لا يزورُني
النومُ إلا على سريري»
4/2/2024

كتبتُ هذا النصّ في لجّة النزوح والخيبة، لا شيء يشبهني، ولا حتى أنا، ذراتي الصغيرة من التفاصيل والطقوس التي تكوّنني، بدأت تنهار واحدةً بعد أخرى، حتى انهرتُ كلياً، فكتبتْ.
والحقيقة أننا تعلّمنا في المدارس سابقاً أن كلما اشتد الضغطُ على مساحة صغيرة، اشتد تأثيره، لكننا لم نكن نعرفُ أن أكثر الأشياء وجعاً تكمن في التفاصيل الصغيرة.
بدأت الكتابة قبل خمسة عشر عاماً، كتبتُ عن الحب والخوف والقلق والتعب والاشتياق، لكنني يوماً ما توقعتُ أنني سأكتبُ كل هذا الوجع، أن أشتاق إلى سريري حين أنزح.
(هاني علقم)

جرّبتُ النزوحَ أكثر من ستّ مرات، كنتُ كل مرّة أخسر فيها شيئاً منّي. نفساً، راحةً، حقيبةً، ذكرى. كلما كان يباغت الجيشُ منطقةَ نزوحِنا، لا يكون وقتاً كافياً حتى لجمعِ اختصارات البيت في الحقائب. على كل حبل غسيل نسينا ملابسَ لنا، وفي كل مكان نسينا حقيبة، حتى صار بيتنا مُشرَّداً مثلنا، في كل مكان.

ماذا يعني أن تنزح؟ سؤالٌ لن تحتاج إليه سوى في مدن الحروب، وأغبطُ كلَّ شخصٍ لم يستخدم مفردات الدماء والأشلاء والنزوح والدبابات والأكفان، لن يكون مهمّاً أن تستخدمَ كل ذلك في مدن النور، لكنه صعب أن تموتَ دون أن تستخدم مفردات الحب والحياة.

كان علينا أن نعتاد على طقوس صعبة، أن ننامَ على وساداتٍ ضيقةٍ على أحلامنا، أن نتعرّى ونغتسل في أماكن غريبة، أن ننام بجانب أشخاصٍ لم يجمعْك معهم طبقٌ واحد، وكان كلما اعتدنا على الصعب، جاء الجيشُ لينغّص علينا طقوساً ليست لنا.

«أنا ابن تسعة عشر عاماً
عشتُ قتلاً كثيراً
أولُه حين كنتُ في الرابعة
لا شكّ أنني أخذتُ
نصيبي كاملاً من الوجع والخوف
والاشتياق
فمتى تطلُّ عليّ الحياة؟»

13/12/2023

تجربتي مع النزوح خاصةٌ جداً، فقد نزحتُ إلى جنوب القطاع عشرة أيام، ثم عدتُ بعد انكشاف زيف المنطقة الآمنة هناك، إلى بيتي؛ لأعيش أسوأ ما يمر على الإنسان طيلة حياته، من اقتحامات عسكرية مستمرة، وحصار، وجوع، وتشرّد. كان وجعنا مركباً، كأنك تنال كلّ نصيبك من الوجع دفعةً واحدة.
حين خرجتُ من بيتي _بعد عودتي من جنوب القطاع_ كانت الدبابات ما زالت في الطريق إلى حارتنا، تشقّ أرضها بالموت والكراهية والرصاص، رحنا نركض خارج حيّنا إلى بيت جدي، وفي الليل كانوا قد وصلوا حتماً، فأصوات الرصاص تأتي من هناك، والقذائف لا تتوقف.
كانت الأخبار تتحدث عن عدد كبير من الشهداء، وأنّ الجثث قد ملأت الطرق والشوارع، كنت لا أنام طيلة تلك الفترة، شبكات الاتصال ضعيفة، ولم أكن أستطيع التواصلَ مع أي أحد.
من مات من أصدقائي؟ من تُركت جثّته باردةً على بلاط الشوارع؟ كنت أسأل.
الحارة التي كبرتُ في شوارعها، ومزّقت ركبي حجارتُها، صارت الآن مقبرة، تضيق بطفلٍ قُتِلَ أبوه عند مكانه المفضّل على عتبة البيت.
أصعب اللحظات حين تتخيّل أصدقاءك _حتى الذين عرفت أنهم نجوا في ما بعد_ وهم جثثٌ على الرصيف والطرقات، خصوصاً حين لا يردون على هواتفهم التي ترنّ أحياناً.

في إحدى تجارب النزوح الصعبة، كانت أمي تعدّنا في كل شارعٍ ومنعطف، كان صوتُها يعلو كلما تفرقنا في الزحام «حيدر حمزة ريماس معي؟» وكنا نجيبها بصوت أعلى من القذائف، كنا نمشي والرصاص فوق رؤوسنا، وشظايا القذائف تقتلُ وتصيب، لم أكن خائفاً، فحين عقدت جدتاي أذرعهما في ذراعيّ، ومشيت بينهما فوق الركام، كنت أشعرُ أنني عشت عمراً كاملاً.
ماذا يعني أن تنزح، ماذا يعني أن تهاجر؟
يعود الفلسطينيُّ بعد أكثر من سبعين عاماً من النكبة إلى ذات الحيرة، هل في البقاء تحت النار وبين الدمار نجاة، أمّ أن النجاة ستكون حتميةً في المنافي؟ كلما فكّرتُ في البقاء تذكرتُ مستقبلي وأحلامي التي تتدمّر، وكلّما فكرت في الغربة اشتقتُ إلى بلادٍ غادرت نفسها.
كان على هذه الحرب أن تأتي، أنْ تعلّمنا معاني الأشياء في تناقضاتها، أن تعلّمنا الحياةَ في حضرة هذا الموت، وقيمةَ الطعامِ في حضرة المجاعة، أن تعلمنا الحبَّ تحت وطأةِ الغياب، أن نتسامحَ مع أجسادِنا في حضرة الأشلاء، أن ندركَ دفءَ البيت في برد الخيم، كان على هذه الحرب أن تأتي، وعليها الآن أن تتوقف.