في السياق الفلسطيني، تترواح أكاديمياً العلوم الاجتماعية والإنسانية بين كونها ضرورة استراتيجية وبين أن تكون ترفاً فكرياً زائداً. البحث التاريخي الأرشيفي والبحث الميداني في المناطق الواقعة تحت الاحتلال والمخيمات والتجمعات الفلسطينية، يجعل الباحث قريباً من صلب القضية. أمّا التحليل النظري، أي محاولة تأطير فلسطين وفق منهج نظري (غربي) مسبق، والذي يتطلب من الباحث الخروج المؤقت من فلسطينيّته، ولبس ثوب عالم الاجتماع - بدعوى الموضوعية - فهو قد يضع الباحث في حالة من الاغتراب، وقد يؤدي به إلى استخدام لغة نخبوية معقدة، تضع قارئيه في حالة من الاغتراب أيضاً.
ست سنوات على استشهاد «المثقف المشتبك» باسل الأعرج (27 كانون الثاني 1984 - 6 آذار 2017)

الاستثناء الوحيد عن هذه القاعدة هو التحليل الماركسي، فالذي يجعل التحليل الطبقي ممتعاً وظريفاً، هو انتشاره وشعبيته وشعبويته، وعدم احتكاره من الطبقة الأكاديمية، فبإمكانك أن تقرأ سمير أمين ومهدي عامل في وقت الصباح، ومن ثم بإمكانك الجلوس وقت المساء مع الجدات الفلسطينيات لممارسة النميمة والغيبة الطبقية، فيخبرنك كيف أن «فلان وعلتان كانوا جوعانين وشبعوا، وصاروا يلبسوا ويسوقوا ويشوفوا حالهم على الناس» (ترجمة ماركسية: الصعود الطبقي للإنسان، وتغيّر علاقات الإنتاج حوله تؤدي به إلى تقبل وتبني الأيديولوجية المهيمنة).
بالطبع، لا ضير على الباحث في مسعاه لمراكمة المزيد من الفهم النظري للقضية الفلسطينية، إلى جانب الفهم الأساسي البديهي للسياق الاستعماري. الاغتراب يبدأ عند الاستعانة الكاملة بالأكاديمي الغربي (والتي تشبه عقدة استعانة العربي غير المشروطة بالخبير الأجنبي في مسائل الهندسة والبنية التحتية)، ووضعه كحلقة وصل وكسمسار بيننا وبين واقعنا المعيش في السياق الاستعماري، حينها تزيح المعرفة النظرية الغربية الفهم الأساسي للقضية في الواقع، وخاصة في حالة الأكاديميا ما بعد الحداثية، والتي تتطلب التشكيك في كل ما نعرفه من مفاهيم، حتى في مفهوم الحرب.

تأطير فلسطين داخل الحرب الثقافية في الغرب
تستحضر الأكاديميا الفلسطينية المعاصرة، والأكاديميا الغربية، نصوص المفكر الفرنسي ميشيل فوكو بشأن الحرب والسلام من أجل تفسير طبيعة الحرب في فلسطين. في العقود الأخيرة من القرن الماضي، سعت النظرية السياسية النقدية إلى تجنب التصنيفات الصارمة لمفاهيم الحرب والسلام، بحيث لم تعد الحرب تعرف بأنها نزاع مسلح بين الجيوش الرسمية للدول القومية، وهو تعريف يستبعد الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل حركات التحرير الوطني والجماعات المسلحة الأخرى. إضافة إلى ذلك، كانت هناك حاجة لتقديم تحليل نقدي لمفاهيم «السلام» والدول «المحبة للسلام».
في فترة السبعينيات، صاغ ميشيل فوكو وجهة نظر نقدية تجاه السلام الليبرالي، ولا سيما في الدول الغربية، التي كانت تتمتع بأكبر قدر من القدرات السياسية والمادية، لإخفاء تناقضاتها وصراعاتها وعلاقات القوة والاضطهاد السائدة فيها تحت غطاء وعد بنهاية ليبرالية «سلمية» للتاريخ. بالنسبة إلى فوكو، لم يتم إنشاء الدول القومية الليبرالية من خلال القهر العسكري فحسب، بل قاموا أيضاً بنسخ بنية الخصومة العدائية في الحروب، وتطبيقها على المجالات المدنية لتنظيم السكان، وكذلك في مجال تنظيم العلاقات مع الدول القومية الأخرى، و«العناصر الغريبة» في المجتمع في أوقات «السلم». فإذا اعتبر المؤرخ البروسي كارل فون كلاوزفيتز الحرب استمراراً للسياسة بوسائل أخرى، فقد اعتبر فوكو السياسة حرباً بوسائل أخرى.
التحالفات البراغماتية التي تعقدها الحركات الاجتماعية الفلسطينية مع الحركات الهوياتية في الدول الأخرى قد تكون ذات فائدة، إلا أنّ للتقاطعية محدودية في السياق الفلسطيني


هذه النظرية تفسر الصراعات والاستقطابات والحروب الثقافية غير العنفية (بالمجمل) داخل المجتمع الغربي. هنا يحل «الناشط» اليميني أو اليساري مكان «الجندي»، وهنا يدير الحرب كل من «اليمين الجديد» من جهة و«تحالف المضطهدين» التقاطعي اليساري من جهة أخرى. وهنا يحل ميدان القانون والمؤسسات والانتخابات والشارع والتظاهرات مكان ميدان المعركة. داخل هذا السياق الأميركي والغربي، يجد الفلسطيني كرسيّاً له في هذه الحرب الثقافية على قائمة طويلة للفئات العرقية الإثنية والجندرية التي اضطهدها دونالد ترامب (بالنسبة إلى بعض الليبراليين الأميركيين البيض، فإنّ المظلومية الفلسطينية بدأت منذ انتخابات عام 2016).
هذه التطورات في المجتمع الغربي، شجعت الأكاديميا الفلسطينية على تطبيق مفهوم الحرب الثقافية على فلسطين، ومما يستتبعه من ضرورة تشكيل «حلف حقوقي تقاطعي» في السياق المحلي ضد «كلّ القائمين بالاضطهاد»، وهذا قد أثّر بدوره على مفهوم الحرب في فلسطين، بوصفها حرباً استعمارية ميدانية مستمرة منذ أكثر من قرن. هنا بات الحديث عن إسرائيل كأنها دولة طبيعية، تعاني من صراعات اجتماعية لا تختلف عن تلك الموجودة في الدول الغربية. وأسوأ من ذلك، بات الصراع التحرري الفلسطيني يعرف بأنه الصراع ضد الأبويّتين الفلسطينية والإسرائيلية، ما حوّل النظام الإسرائيلي إلى «طائفة» أبوية شقيقة ينبغي مناهضتها إلى جانب العشائر الفلسطينية.

سياق اضطهادي فحسب، أم سياق استعماري عسكري؟
مع أن التحالفات البراغماتية التي تعقدها الحركات الاجتماعية الفلسطينية مع الحركات الهوياتية في الدول الأخرى قد تكون ذات فائدة، كما في حالة حركة المقاطعة (ومفهوم الحرب الاقتصادية والقانونية لدى الحركة)، إلا أنّ للتقاطعية محدودية في السياق الفلسطيني، فهي ستتحالف دائماً مع «الناشط» المحلي فقط، ولن تتحالف يوماً مع «المقاوم». ذلك لأن منظور الحرب الثقافية والصراع ضد الاضطهاد في فلسطين يأتي مثقلاً بـ«محظور» غربي معاصر يتعلق بحق مقاومة الاحتلال بالوسائل كافة، لهذا من البديهي مثلاً أن يحتفي «الحلفاء» التقاطعيون الغربيون بصورة المسلّحات الكرديات، بينما يجزعون في الوقت ذاته من تسمية مؤسسة أهلية فلسطينية باسم المقاوِمة الشهيدة دلال المغربي، وهم بهذا الأساس لا يعطون الناشطة النسوية الفلسطينية إلا حق «الاحتجاج والاستنكار» ضد «الأبوية» الإسرائيلية، ومن ثم يطلبون منها الشكر والعرفان على هذه المساحة الاحتجاجية الجديدة.
لا يمكن تطبيق منظور الحرب الثقافية، أي الحرب بوسائل القانون والاحتجاج والانتخاب والمشاركة في المجتمع المدني وحملات التواصل الاجتماعي في السياق الفلسطيني، وذلك بسبب استمرارية الحرب الاستعمارية التقليدية والمفروضة فرضاً على الفلسطينيين. هنا يصبح نقاش «جدوى السلاح» من عدمه غير مهمّ، ذلك لأن الطبيعة القسرية للحرب الاستعمارية ستجعل العودة المستمرة إلى السلاح حتمية، وهذا ما يفسر تصاعد العمل المقاوم في الضفة.
في سنوات الحرب الثقافية الغربية، تأثّر جيل «الزاي» الفلسطيني الشاب في مدن الضفة الغربية والداخل، بالتيارات التحررية التقاطعية المناهضة للاضطهاد، وخاصة مع شيوع وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الصحفية الرقمية، وسواد الأطر النظرية الغربية في كليات العلوم الاجتماعية، وابتعاد ذاكرة هذا الجيل عن أحداث الانتفاضتين الأولى والثانية وغزو العراق وحرب صيف عام 2006، وأيضاً تأثرهم بالشق المديني الليبرالي من الانتفاضة اللبنانية منذ عام 2019، إلا أن الكثير منهم تمكّنوا، بعدما شهدوا على الحرب في هبّة رمضان عام 2021، وما جاء بعدها من عمل مقاوم في جنين ونابلس في السنتين الأخيرتين، من رؤية إسرائيل كمستعمرة واضحة، أكثر عرياً من أن تتطلّب ترف التفكيك ما بعد الحداثي.
في النهاية، بدلاً من استحضار الخبير الأجنبي، سوف استحضر المثقف الفلاح هذه المرة من أجل الحديث عن طبيعة الحرب في فلسطين. يقول الشهيد باسل الأعرج: «العدوّ فقد القدرة على إنتاج الأبطال في عصر ما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة… وطبعاً تعلم أننا نحن الفلسطينيين نعيش خارج هذا الزمان، نحن في زمان استعماري فلسطيني خالص، ويدور حولنا عالم ما بعد استعماري وما بعد حداثي، لذلك ما زلنا قادرين على إنتاج سرديات [البطولة]».