أنهيت للتوّ قراءتي لرواية «ما تبقّى لكم» لغسان كنفاني، ما إن فرغت من القراءة، حتى انتبهت إلى العلاقة التي نشأت مع شخصيات الرواية، شعرت بحضورهم، وحضور حامد وشقيقته معي في غرفتي الصغيرة.حملت بعضاً مني وخرجت لمشاهدة بعض العروض التي اعتادت برشلونة، مكان إقامتي، أن تمنحها لقاطنيها وزوارها في ساحاتها العامة، وخاصة في ساحة الكاتدرال القابعة خلف منزلي، توقفت لمتابعة عرض تقدّمه فتاة تحمل طوقاً حديدياً، وترقص معه، كانت فتاة الطوق تدور معه معلّقة أطرافها فيه، متقلّبة بصحن مستدير يكاد أن يصطدم بالأرض، كان الجميع مذهولاً بأدائها، وحين أتت لحظة ارتطامها بالأرض، أخذ الجميع أنفاسه، لكنها بحركة بهلوانية وقفت منتصبة، معلنة براعتها وتفوّقها على الطوق.
فجأة انتبهت إلى أن حامد، بطل الرواية، يقف بين الجموع، وكنت أظن بأنه عاد إلى صفحات الرواية ليتابع حكايته، سمعت صوت أجراس الكاتدرال تقرع معلنة تمام الساعة، وخيّل إليّ أنّي أسمع صوت ساعة حامد في داخلي. هذا ما يستطيع غسان كنفاني أن يفعله بقارئه، إنه يغوص بك حتى يسكنك، فتغرق بين دفّتَي روايته وتشدّك شخصياته من يدك حتى تظن أنك أحدها، فيجعلك تغضب وتهدأ، تعلو وتهبط مع كل شخصية من شخصياته.
أنهت أجراس الكاتدرال عزفها لإعلان تمام الساعة، والراقصة أنهت لوحتها، فدخل الجميع في حمّى التصفيق إلا حامد ظل واقفاً زاهداً بالجميع، متأهّباً للوصول إلى الطرف الآخر من الصحراء، كان أمامي، رأيته يتفحص أعينهم بنظرات ثابتة، جميع من حضر كانت نظراته حائرة إلا هو، فقط هو من كان يعي تماماً إلى أين سيذهب.
في جانب آخر من الساحة، انتبهت إلى غسان كنفاني يقف أيضاً ويشاهد ما الذي يحصل. اقتربت منه، فأخبرني كم كان حامد تائهاً في عتمة السماء وأحشاء الصحراء، حين كتبه، كم كان رغم تيهه في المكان، يمتلك الثبات في موقفه والإصرار من أجل ما عزم عليه؛ قاطع الحديث شاب ثلاثيني ذو لحية شقراء وعينين زرقاوين بسؤاله، هل تتكلمين الإنكليزية؟ أجبته بنعم، ثم سأل هل أنت من برشلونة؟ أجبته: أنا أعيش هنا، في هذا الحي، لكني لست من هنا. هل ضللتَ طريقك؟
أخبرني بأنه يحتاج إلى من يدلّه أين تقع ساحة كاتالونيا، أجبته ثم سألته، من أين أنت؟ فأجابني، لا يمكنك أن تحزري من أين، أنا من دولة في الطرف الآخر للبحر المتوسط محشوة بين صحراء ونهر وبحر، فيها أقدم مدن العالم على الإطلاق، صغيرة وخضراء نزرع فيها الزيتون والبرتقال، ونصنع فيها أنواعاً شهية من الحلويات وأهم طبق نقدمه هو الفلافل، هل عرفت اسمها؟
عرفتُ من صيغة سؤاله بأني أمام عدوّي، وأن معركة ما ستبدأ الآن، فتأهّبت لها ورسمت ابتسامة ساخرة وأجبته بنبرة العارف المتحدّي، إنها فلسطين، وابتسامتي الساخرة ونظرتي المتكبرة أحاطتا به فارتبك وانتفض قائلاً: لا، ليست فلسطين، أنت لا تعرفين التاريخ، كم أنت جاهلة، إنها إسرائيل. عاد حامد وظهر من جديد، رأيته يطرحه أرضاً ويثبت جسده ليحشر نصله في خاصرته، كما فعل بالجندي الإسرائيلي الذي ظهر له في غياهب الصحراء داخل صفحات الرواية.
عادت الأجراس تقرع مجدداً، وسمعت حامد يقول: «إنها قصة مسافة ليس غير، وربما زمن أيضاً»، تدفق الكلام من فمي، هذه التي تحدثت عنها، اسمها فلسطين، ولا يمكن أن تعرفها أكثر مني، إنها بلدي وموطني، يا لوقاحتكم، تسرقون البلاد، وتشبعون الناس برواياتكم وادعاءاتكم الكاذبة. بلدك هذه التي تسمّيها إسرائيل لا يتجاوز عمرها الـ 75 عاماً، أمّا فلسطين، أمّا الحقيقة، فهي من قدم التاريخ، أقدم مدينة في التاريخ اسمها أريحا وتقع في فلسطين.
كانت نظراتي حادة وصوتي ثابتاً، اقترب حامد مني، وهمس هواجسه في أذني «الأمور هنا نسبية تماماً وهي لمصلحتي أيضاً وهذا شيء غريب، فقبل دقائق فقط، كان كل شيء في هذا الكون ضدّي تماماً، وكانت الأمور كلها في غزة والأردن تعمل في غير مصلحتي وكنت أقف هنا تماماً في رقعة محاطة بالخسائر من كل جانب».
تجمّد الرجل في مكانه، وبان في عينيه التيه، لقد صعقته إجابتي فأدرك أنه في حضرة جيش من الغضب، فعرف مدى خسارته وتسلّق وجهه الذعر، كجنديّ وحيد وجد نفسه أمام جيش عدوّه عارياً.
عادت الأجراس تقرع فرأيت مريم، أخت حامد، تقوم بغرز نصلها بالرجل، كما غرزته في أحشاء زكريا لتسكت ضجيجه وتثأر لحامد الذي ابتلعته الصحراء مع الجندي الإسرائيلي، تحوّلت أنظار الجموع نحوي ونحو الإسرائيلي الذي انهار أمام نظراتنا أنا ومريم. فتقدّمت مني حسناء إسبانية، وسألتني، ما باله، فأجبتها، لا شيء، هذا ما تبقّى لكم.