يشكّل اعتقال جثامين الشهداء واحتجازهم في الثلاجات ومقابر الأرقام أيضاً وسيلة متبعة وشائعة لدى الاحتلال للانتقام من الشهيد حتى وهو ميت. يشبه الاحتجاز الاعتقال الإداري للجثمان، حيث أن الاحتلال يعتقل الجثمان دون توجيه أية لائحة اتهام ودون محاكمة ويحتفظ به في الثلاجة أو مقابر الأرقام إلى وقت غير معروف قد يصل في بعض الحالات إلى عقود من الزمن. يحاول الاحتلال، من خلال هذا الإجراء، فرض سيطرته الاستعمارية وسيادته الفعلية على الميّت كما هو على الحي، فهذا الجثمان الذي قام صاحبه بفعل مقاوم، أو لمجرّد أنه ينتمي إلى الشعب الخاضع للاحتلال، لا يستحق الاحترام ولا يستحق الدفن بكرامة ولا الحزن عليه كباقي البشر. وقد تجلت فلسفة الانتقام من الميت الفلسطيني، منذ البدايات الأولى للاحتلال، من خلال التعامل مع جثامين الفدائيين الذين كانوا يجتازون الحدود، وما زالت مستمرة حتى اليوم إلى حد أن شخصيات سياسية إسرائيلية اقترحت حرق الجثامين انتقاماً منهم. لم تأت سياسة الاحتجاز لأسباب أمنيه أو لغرض المساومة، بل جاءت وبالأساس كوسيلة عقابية لعائلات الشهداء وطريقة للانتقام من الفلسطيني الميت، وأيضاً لإخفاء جرائم ارتكبت بحق الفلسطينيين مثل الإعدامات الميدانية وسرقة الأعضاء المحتملة والتمثيل بالجثامين. ويرى الباحث الأسباب التي تقف وراء الاحتجاز هي من الخطورة بمكان إلى حد أنها تستدعي التقصي والتحقيق على المستويين المحلي والدولي، وهي تشكّل جريمة حرب تستوجب المساءلة والعقاب، وخاصة أنها ترتبط بالحط من كرامة الفلسطيني.
يحتجز الاحتلال عشرات جثامين الشهداء منذ أن بدأ بسياسة رسمية ممنهجة لاحتجاز الجثامين في تشرين أوّل 2015 (105 حتى اللحظة) وعدد آخر (253 شهيداً) منذ عشرات السنين. وأمام هذا العدد الكبير، والمتزايد يوماً بعد يوم، يراودنا السؤال: أين يتم احتجاز الجثامين وما هي ظروف الاحتجاز وماذا يفعل الاحتجاز بجثمان الشهيد؟ والسؤال الأخطر والأهم: هل ثمّة ما يؤكد قيام الاحتلال بسرقة أعضاء الشهداء المحتجزين؟؟ أسئلة كثيرة وخطيرة ربما نستطيع الإجابة عليها في هذا البحث المتواضع، الذي سيركز أساساً على مكان الاحتجاز المفترض.

الاحتجاز في معهد الطب الشرعي

يقع المعهد الوطني للطب العدلي في حي أبو كبير في تل أبيب، وهو المؤسسة الوحيدة التي تقدّم خدمات في الطب العدلي في إسرائيل. وقد أعلن عن تأسيسه في عام 1955 بدعم من الاتحاد اليهودي في جنوب أفريقيا تخليداً للقاضي لئيوفولد غرينبرغ(1).
وقد أدار المعهد عدة جهات، في البداية كان بإدارة شرطة إسرائيل، ثم انتقل بعد أشهر من تأسيسه إلى إدارة الجامعة العبرية في القدس، وبعد ذلك في عام 1975 انتقل إلى إدارة وزارة الصحة، وفي عام 1988 أصبح فرعاً من كلية الطب في جامعة تل أبيب، وفي عام 2004 نقلت إدارته إلى المركز الطبي «آساف هروفيه»، وفي عام 2012 تقرّر نقله إلى الإدارة الطبية في وزارة الصحة (2).
ويعتبر المعهد هو الوحيد في إسرائيل المعتمد للطب الجنائي، ومن مهام المركز التحفظ على الجثث للبحث الجنائي والتشريح وإجراء الفحوصات مثل الـ D.N.A وإصدار التقارير الجنائية بناء على أوامر المحكمة في جرائم القتل، ويتم الاحتفاظ بالجثث في ثلاجات ملائمة لأوقات متفاوته (3).
وربما تكون حقيقة أن المعهد هو الوحيد في إسرائيل، ولا يوجد له منافس، هي أحد أهم الأسباب التي تجعل من المركز بؤرة فساد، حيث ارتبط اسم المعهد خلال السنوات السابقة بمخالفات جسيمة وأقيمت قضايا جنائية ضد إدارته وطواقمه الطبية بسبب الفساد والإهمال في حفظ الجثث وسرقة الأعضاء واستخدام الجثث للتدريب دون موافقة عائلة الميت (4) والمتاجرة بأعضاء الموتى وخاصة الفلسطينيين منهم.
وقد أثارت حقيقة احتجاز الجثامين في المعهد مخاوف ذوي الشهداء من مصير جثامين أبنائهم المجهول واحتمالات العبث بالجثامين وسرقة الأعضاء وما يحدثه تجميد الجثمان من تشويهات في الجثمان وسنتناول هذه الاحتمالات والمخاوف كما يلي:

أوّلاً: سرقة الأعضاء

ارتبط اسم معهد الطب العدلي في أبو كبير بفضائح وقضايا فساد بسبب اجتثاث الأعضاء من الجثامين والتصرّف بها دون موافقة الأهل أو الميت قبل وفاته، ومنها جثث إسرائيليين. وفي حالة مشهورة عام 1997 اكتشف الدكتور حاييم بوزغلو جثمان ابنه العسكري الذي قضى نحبه في حادث تدريب في الجيش فوجد أنها غير سليمة: «رأيت أنهم عبثوا بالجثمان وتدربوا عليه ولا يوجد قرنيات في عينيه... حتى زوجتي غير الطبيبة عرفت أنه لا يوجد في عينيه قرنيتان»(5). وكانت صحيفة «يديعوت» العبرية قد كشفت، في تحقيق في كانون الثاني 2000، قيام المعهد بسرقة أعضاء من الجثث وبيعها بهدف إجراء أبحاث علمية عليها دون علم الأهل وموافقتهم (6). ونسب التحقيق إلى موظفين في المعهد قولهم أن أعضاءً داخلية سُرقت من الجثث أثناء التشريح من قبل الأطباء أو المساعدين ونقلت للحفظ في أوعية مع مادة الفورملين، ومن هناك كان يتم نقلها إلى معاهد الأبحاث (7) التي كانت تطلب هذه الأعضاء بدون موافقة الأهل. وتضيف الصحيفة، حسب إفادة موظفين في المعهد، أن الأطباء كانوا يضعون بدل الأعضاء المسروقة «ورق تواليت» أو «عصا المكنسة ومواسير بلاستكية صلبة» (8) وعندما كانوا يأخذون عظام الوجه أو الجمجمة كانوا يضعون بدلها قطع فولاذية ويخيطون الجلد لإخفائها (9)، كل ذلك خلافاً لتعليمات قانون وزارة الصحة الذي يمنع تشريح أو اجتثاث الأعضاء من المتوفى إلا بموافقة خطية من الأهل.
وفي كتابها «على جثثهم الميتة»، فجرت البروفيسورة مائيرا فايس، أخصائية الطب العدلي، قنبلة (10) مدوية في إسرائيل حيث استعرضت في كتابها 7 سنوات من العمل والمراقبة على تشريح الجثث في المعهد وقالت أنهم «اعتادوا في معهد الطب العدلي في أبو كبير، منذ سنوات طويلة، اجتثاث أعضاء من الجثث، وأن موافقة الأهل والمحاكم على التشريح استخدمت من قبل الباحثين والأطباء كتصريح لبيع الأعضاء للمستشفيات المجاورة»(11). وكشفت فايس في كتابها أن «الدولة لا تميّز بين اليهود الأحياء والعرب الأحياء وحسب، بل أن تعاملها مع جثامين الفلسطينيين، الذين يسمونهم إرهابيين، يبدو بلا ضابط أو قانون»(12). وتؤكد أن «أعضاء الشهداء الفلسطينيين تتعرّض للسرقة» بينما لم يتم التعرض بالسرقة لجثمان جندي إسرائيلي واحد وأن الجيش الإسرائيلي أصبح يمتلك مخزوناً كبيراً من الجلد (13). وتنسب فايس إلى بروفيسور في هداسا، لم تكشف عن اسمه، قوله بأنهم أقاموا في الجيش بنك جلد للجيش الإسرائيلي يستخدم لمعالجة الجروح التي يتعرض لها الجنود (14). وقال الجنرال احتياط د. اريه الداد، ضابط صحة رئيسي، وهو أحد المبادرين للمشروع، الذي في إطاره جند الجيش الكثير من الأطباء للخدمة في معهد الطب العدلي: «توجه الجيش للمعهد وطلب تزويده بالجلد، لاستخدامه أساساً في حالات الكوارث. عملنا حسب القانون الواضح تماماً، وطلبنا موافقة العائلات التي وصلتنا جثث أبنائها، وفي الحالات التي وافقت فيها العائلات أخذنا الجلد أو أعضاء أخرى، ولم نأخذ شيئاً من الجثث التي لم توافق عائلتها على ذلك»(15). وبينّت فايس أنّ فترة الانتفاضة الأولى في العام 1987 شهدت أكبر عمليات سرقة الأعضاء، خاصة مع زيادة عدد جثث الفلسطينيين، لافتةً إلى أنّه قام بتنفيذها العاملون في المعهد بعد أنْ تلّقوا أمراً عسكريّاً، وبدون علم ذوي الشهداء.
وكانت البروفيسورة الأميركية نانسي شفراد– يوز قد نشرت لقاءً أجرته مع البروفيسور يهودا هيس، المدير السابق للمعهد والطبيب العدلي للدولة، كشف فيه عن طريقة إدارة المعهد وعن الأعمال التي جرت على الجثث والتي لا يعرفها الجمهور. «أراد هيس أن يساهم في موضوع التبرع بالأعضاء في إسرائيل، لذلك تجاوز هو وموظفوه القانون، كانوا يتعاملون مع الجثة ويخرجون منها قرنيات للزراعة خلافاً لقانون التشريح العدلي الذي يلزم المعهد بالتوجه إلى أهل الميت والحصول على موافقتهم للتبرع بأعضاء الميت القابلة للزراعة»(16). وكانت البروفيسورة شفراد –يوز قد نشرت اللقاء في أعقاب تقرير لصحافي سويدي جاء فيه أن «إسرائيل تقتل فلسطينيين من أجل استخدام أعضائهم» (17). وجاء في التقرير، الذي نشرته صحيفة «افتونبلات» السويدية، أن «الاحتلال الإسرائيلي لم يسرق أعضاء الشهداء فحسب، بل تعمد خطف شبان فلسطينيين أحياء وإعادتهم إلى ذويهم جثثاً هامدة خالية من بعض الأعضاء»(18).
وكانت وزارة الصحة قد شكلت في عام 2001 لجنة تحقيق برئاسة القاضي المتقاعد ارييه سغلسون إثر تحقيق «يديعوت أحرنوت»، وبعد ضغط أوساط شعبية وسياسية وإعلامية، وخلصت اللجنة إلى أن »كل الأبحاث في المعهد جرت بمعرفة وموافقة البروفيسور هيس الذي لم ينفذ تعليمات وزارة الصحة في الحصول على موافقة الأهل على التشريح» وأن «إدارة المعهد قامت بالتغطية على خطورة الأعمال التي جرت»، وأن «هناك فساداً في تسجيل الأموال التي أعطيت للمعهد مقابل الأعضاء. وكانوا يُدخلون في الجسم مواد أخرى بدل الأعضاء التي أُخذت بدون موافقة الأهل الأمر الذي يعتبر انتهاكاً لكرامة الميت وعائلته» (19).
واكتشفت اللجنة أثناء التحقيق أن هناك مخزوناً هائلاً من الأعضاء التي أخفيت في أماكن مختلفة بعد أن أُخذت من الجثامين بدون علم وموافقة الأهل. وأوصت اللجنة بتقديم عدد من المسؤولين إلى القضاء لارتكابهم مخالفات جنائية، كما أكدت أن مدير المعهد البروفيسور يهودا هيس والمديرة الإدارية يونا تننباوم فَشِلا فشلاً ذريعاً في إدارة المعهد وأوصت بإجراء تحقيقات شرطية مع إدارة المعهد (20).

ثانياً: جثامين الشهداء المحتجزين

يتبيّن ممّا ورد أعلاه أن الشهداء الفلسطينيين عموماً كانوا هدفاً لسرقة الأعضاء وأن من أهداف احتجاز جثامينهم كان استخدامهم لهذا الغرض، وهذا كان واضحاً في كتاب فايس وتقرير الصحافي السويدي. ومع ذلك، فقد حرصت إسرائيل طوال السنوات الماضية على إخفاء هذه الجريمة، وخاصة ما يتعلق بجثامين شهداء انتفاضة القدس الذين تحتجزهم في الثلاجات لمدد طويلة مختلفة. ورغم أن العائلات أعربت مراراً وتكراراً، في بيانات صحافية ومذكرات إلى المؤسسات الدولية، عن مخاوفها من العبث بجثامين أبنائها وسرقة أعضائهم، إلا أنها لم تستطع لغاية الآن إثبات أو التأكد من السرقة وذلك، حسب رأي الباحث، للأسباب التالية:
1- لم توافق إسرائيل طوال فترة الاحتجاز على طلب قيام الأهل أو أطراف محايدة بمعاينة الجثامين والتأكد من سلامتها، أو حتى التعرف إليها، لذلك احتجزت الجثامين لأشهر طويلة دون معرفة ما تعرضت له خلال هذه الفترة.
2- رفض إسرائيل طلبات عدد من الأهالي إدخال أطباء محايدين و/أو فلسطينيين لتشريح الجثمان في المعهد، واشترطت أن يتم التشريح من قبل طاقم المعهد فقط ووافقت في حالات معينة أن يجري بمراقبة طبيب فلسطيني (مثلاً الشهيد معتز عويسات والشهيد محمد أبو خلف) لذلك لا أحد غير الطاقم يعرف ماذا يحدث للجثمان.
3- تشترط إسرائيل أن يجري التسليم والدفن بأسرع وقت ممكن، الأمر الذي منع في كثير من الحالات نقل الجثمان إلى معهد الطب العدلي في أبو ديس لإجراء التشريح والتأكد من سلامة الأعضاء وعدم سرقتها.
4- يتم التسليم وحالة الجثمان متجمدة تكسوها طبقة سميكة من الجليد مما يعيق التشريح قبل مرور 24-48 ساعة على الأقل يتم خلالها إذابة الجليد عن الجثمان.
5- يميل الأهل عادة إلى الإسراع في دفن الجثمان بأسرع وقت ممكن إمّا خشية من قيام جيش الاحتلال باختطاف الجثمان مرة أخرى أو لقناعات دينية بتحريم تشريح الجثمان.
6- بسبب ضيق الوقت وتجمد الجثمان تكتفي العائلة في بعض الأحيان بالفحص العاجل في أحد المستشفيات، وفي أحسن الأحوال إجراء صورة طبقية ثلاثية الأبعاد، وحسب رأي طبي، هذه الفحوصات لا تكفي لمعرفة التغييرات التي طرأت على الجثمان، خاصة وأن هناك أعضاء داخلية يمكن استئصالها دون إحداث جرح ظاهري، مثل الخلايا الجلدية، وقرنيات العين وصمامات القلب.
7- تكتفي أغلب العائلات بالمعاينة من قبل العائلة وتسارع في إذابة الجليد ودفنه دون أي فحص طبي. وتجدر الإشارة إلى أن جميع العائلات دون استثناء لم تعاين الجثمان عند الاستشهاد أو في وقت قريب من ذلك، وهناك حالات محدودة تم استدعاء الأب للتعرف على الشهيد برؤية الوجه فقط، لذلك في حالة وجود جروح أو ثقوب في الجسد، فإن العائلة لا تستطيع معرفة ما إذا كانت بسبب الإصابة وإطلاق النار والتمثيل بالجثمان وقت الحادث، أو أنها نتيجة عبث في الجثمان ومحاولة سرقة أعضاء.
8- لوحظ في معظم الجثامين تغييرات كبيرة في الجسد مثل اختلاف لون الجلد في الوجه والرقبة وبياض ناصع في الأماكن السفلى خاصة بعد إزالة الجوارب والملابس الداخلية وأيضاً ضمور في الوجه والعينين. وبدون فحص طبي عدلي متخصص لا يمكن التأكد من سبب هذه التغييرات. مثلاً وجد الباحث عندما تفحص جثمان بهاء عليان أن عينيه غائرتان إلى الداخل بحيث يبدو التجويف فارغاً، لكنه لا يعرف ما إذا كان هذا نتيجة لظروف الاحتجاز أو نتيجة سرقة القرنية مثلاً، وكذلك ضمور الوجه بشكل لافت ولون الجلد المختلف من مكان إلى آخر في الجسد ووجود ثقوب في القسم العلوي من الجسد، ولا تستطيع العائلة أن تقرر أسباب هذه الثقوب هل هي نتيجة الإصابة وقت الحادث أو ثقوب أُحدثت لأغراض أخرى، وهذا ما يتقرر فقط بالتشريح والفحص الطبي(21).
9- فيما يتعلق بجثامين الشهداء المقدسيين، فإن التسليم وتحضير الجثمان والدفن يتم خلال ساعة وفي منتصف الليل ودون تصوير وبحضور عدد قليل من أفراد العائلة فقط، لذلك لا تجد العائلة الفرصة، للتأكد من سلامة الجثمان وعدم سرقة أعضاء، حتى أنها، وبسبب تصلب الجثمان وتراكم الجليد عليه، لا تستطيع معاينة الجسد بالعين المجردة وتسارع إلى دفنه دون أي تأخير.
ويسود الاعتقاد أن هناك سرقة أعضاء من جثامين الشهداء، وإن كان ذلك غير مثبت من خلال الفحوصات والتشريح الطبي، ولا توجد أدلة قطعية، إلا أن سياسة الاحتلال في احتجاز الجثامين تخفي حقائق خطيرة منها احتمال سرقة أعضاء من الجثمان وإخفاء أدلة تدين إسرائيل في أية محاكمة دولية مستقبلية(22).

ثالثاً: ظروف حفظ الجثامين في الثلاجات

كشف تحقيق «يديعوت أحرنوت» أن ثلاجات المعهد مكتظة ولا تتسع للجثث المعطوبة حتى قبل التشريح وشروط العمل والنظافة هناك سيئة جداً، حيث تتقافز الزواحف والحشرات بين أرجل العاملين، والجثث متناثرة في الممرات وسط الذباب والحشرات(23) ولا تُتخذ أية إجراءات ضد المواد الخطرة، ومكيفات الهواء قديمة ولا تناسب المكان الذي يجري فيه التشريح، وطاولات التشريح بالية وأنابيب الصرف الصحي في غرف التشريح تفيض بالمياه العادمة (24). وتنبعث من غرف وأروقة المعهد روائح كريهة وهي خليط من روائح تعفن الجثث والمواد الكيماوية التي تستخدم للحفظ والتشريح، ولا يسمح للجمهور بزيارة المعهد إلا بإذن خاص. ولم تصل تقارير أو إفادات حول مكان احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في المعهد، ولكن من معاينة الجثامين التي سلمت إلى العائلات بعد أشهر من الاحتجاز، يتضح ما يلي:
1- تحتجز الجثامين في ثلاجات بدرجة حرارة دون 30-40 درجة مئوية دون الصفر
2- إمّا أن تكون الثلاجات ضيقة أو أنها مكتظة حيث أن وضعية الجثامين تشير إلى أنها لم تكن ممدودة وهناك حالات كانت الأطراف منحنية وخاصة الساقين.
3- من شبه المؤكد أن الجثامين كانت مكدسة فوق بعضها البعض في الثلاجات بإهمال شديد ودون مراعاة لكرامة الميت وحرمته وعادة يوضع الجثمان في الثلاجة فور وصوله المعهد وبالشكل الذي وصل به.
4- جميع الجثامين كانت مجمدة مغلفة بطبقة جليد صلبة وسميكة.
5- هناك تلف في بعض الأطراف مثل ضمور في الوجه والعينين حتى أن بعض الجثامين ظهرت حجرة العين كأنها جوفاء.
6- اسوداد في الجلد وخاصة الوجه والرقبة
7- تحفظ الجثامين بالملابس الداخلية وبعضها بالملابس الخارجية الممزقة وفي حالة الشهيد بهاء عليان كان يرتدي في قدمه اليمنى حذاءً رياضياً في حين كان في قدمه اليسرى جورب أبيض.
8- الجلد في المنطقة المغطاة بالملابس الداخلية أو الجوارب ناصع البياض في حين تميل باقي الأجزاء إلى السواد.
9- يكون الجثمان عند الاستلام داخل 3-4 أكياس نايلون سميكة بيضاء أو سوداء محكم الإغلاق من الأعلى.
10- عند فتح الأكياس وظهور الجسم تنبعث منه رائحة نفاثة غير طيبة سرعان ما تزول.
11- معظم الجثامين كانت عند الدفن تنزف دماءً بسبب ذوبان الجليد وذوبان الدم الذي كان متجمداً(25).
وكان أكثر ما يقلق ذوي الشهداء هو تجمد الجثمان وتصلبه واكتساؤه بطبقة سميكة من الثلج، الأمر الذي حال دون دفنه بسهولة ومرونة، حيث أن عملية الدفن تتطلب ثني الجثمان عند إدخاله القبر وثني أطرافه عند وضعه في الداخل، وفي بعض الحالات اضطرت عائلة الشهيد(26) إلى تأجيل الدفن لأكثر من يوم وسكب الماء الساخن على الجثمان لإذابة الثلج، وقد احتاج الأهل، لأجل إذابة جزء من الجليد، إلى سكب عشرات الدلاء من المياه الساخنة، وتم إدخال عدد من الجثامين في مستشفيات الضفة الغربية لساعات طويلة من أجل تهيئة الجثمان للدفن.
أمّا في القدس، فقد أُجبرت العائلات على دفن أبنائها وهي في حالة التجميد وكانت بعض الجثامين قد تعرضت إلى تشوهات وتغييرات شديدة، حتى أن بعض الأهالي تعرفوا على أبنائهم من خلال علامات فارقة. وفي مرحلة متقدمة من المفاوضات حول تسليم الجثامين اشترطت العائلات إخراج الجثمان من الثلاجة قبل 48 ساعة على الأقل وفي هذه الحالات لم يكن الجثمان مجمداً وكان قابلاً للدفن مثل حالة الشهيد حسن مناصرة في المرة الثانية وحالة الشهيد بهاء عليان.
وتجميد الجثمان يحول دون تشريحه بعد تسليم جثمانه، وقال د. صابر العالول، مدير الطب الشرعي الفلسطيني السابق، لوكالة «معا» إن قيام إسرائيل بتجميد جثامين الشهداء في ثلاجات تصل درجتها إلى 35 درجة تحت الصفر يعيق الشروع بتشريحها إلا بعد 24-48 ساعة، بالتزامن مع اشتراط إسرائيل على أهالي الشهداء قبيل تسليم جثامينهم دفنهم فوراً(27).
وكان يراود عائلات الشهداء الشك بأن تجميد الجثامين واشتراط إسرائيل الدفن فوراً يهدف إلى الحيلولة دون التشريح وكشف حقائق تريد إسرائيل إخفائها، مثل الإعدام وسبب الوفاة الذي يكون غالباً عدم تقديم العلاج الفوري، وسرقة أعضاء أو استخدام الجثمان للتدريب الطبي وغير ذلك. وكانت الحملة الشعبية قد سلمت منظمة الصليب الأحمر الدولية والاتحاد الأوروبي ومؤسسات دولية أخرى كتاباً يتضمن مناشدة لزيارة معهد الطب العدلي في أبو كبير ومعاينة جثامين الشهداء والوقوف على ظروف الاحتجاز. ويذكر أن جميع جثامين الشهداء في القدس والضفة الغربية دفنت بدون تشريح وبدون معاينة طبية باستثناء حالات معدودة.

الدفن في مقابر الأرقام

قلنا في سياق سابق أن احتجاز الجثامين قديم جديد، صحيح. لكنه برز في وسائل الإعلام وأخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام الشعبي والقانوني بعد موجة الاحتجاز في انتفاضة القدس 2015، إلا أن الاحتلال اعتاد احتجاز جثامين شهداء منذ احتلال فلسطين، وكان يحتجز في البداية الفدائيين الذين كانوا يجتازون الحدود للقيام بأعمال فدائية، وكان بعضهم مجهولي الهوية والبعض الآخر تعيش عوائلهم خارج فلسطين، كما تم احتجاز شهداء تم اغتيالهم في داخل فلسطين المحتلة واحتجزت جثامينهم دون تمكين العائلة من معاينتها ودفنها.
وهناك تفاوت في عدد الشهداء الذين دفنت جثامينهم في مقابر الأرقام في أوقات مختلفة سابقة، فمنهم من يعتبر مفقوداً، أي لا توجد أية معلومات عنه ولا يعرف ما إذا كان حياً أسيراً أم شهيداً، وهناك جثامين غير معروفة الهوية. ولكن التقارير العبرية المختلفة تتحدث عن أكثر من 500 لشهداء غير معروفي الهوية، فيما وثق مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان «446 حالة، منها 65 مفقوداً و381 شهيداً وشهيدة، تم تحرير 93 جثماناً وبقي 288 جثماناً محتجزاً في مقابر الأرقام»(28). وفي تقرير آخر للحملة الوطنية لاستراد الجثامين والتي تأسست عام 2008، فإنه وفقاً لما تم توثيقه استناداً إلى بلاغات عائلات الشهداء والفصائل الفلسطينية التي كانوا ينتمون لها، فقد تم احتجاز حوالي 400 شهيد، فيما تم تحرير جثامين 131 منهم، وما يزال 253 شهيداً محتجزاً في مقابر الأرقام. وتؤكد الحملة أن عدد الشهداء الموجودين في مقابر الأرقام يفوق هذا العدد الموثق استناداً إلى المعلومات المتداولة حول المقابر وأعداد القبور داخلها(29).
وحسب الحملة فإن هناك 68 مفقوداً منذ بداية الاحتلال حتى اليوم ولا يعرف مصيرهم وينكر الاحتلال أي معلومات حولهم.
ويرى الباحث أن عدم الدقة في التوثيق تعود إلى رفض الاحتلال إعطاء معلومات دقيقة عن الشهداء المحتجزين في مقابر الأرقام، وكان مصدر المعلومات الأساسي لدى المعنيين في التوثيق هم عائلات الشهداء أنفسهم، إضافة إلى ما رشح من معلومات لمؤسسة الصليب الأحمر الدولية والمؤسسات الحقوقية.
واعتادت سلطات الاحتلال دفن الشهداء بشكل عشوائي في مقابر سميت بـ«مقابر قتلى العدو» منتشرة في أماكن مختلف من فلسطين المحتلة

مقابر الأرقام

وفقاً لما تم الكشف عنه من معلومات حتى الآن حول هذه المقابر، فقد تبيّن وجود أربع منها تقع جميعها في مناطق عسكرية مغلقة وهي:
1- مقبرة الأرقام المجاورة لجسر «آدم» - بنات يعقوب، وقد تكون هذه المقبرة خصصت لمن سقطوا في الحروب الإسرائيلية على لبنان، من الفلسطينيين واللبنانيين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويقدر عدد القبور فيها بـ 500 قبر. وحسب التقارير العبرية، نقلت هذه المقبرة في عام 2000 إلى معسكر «عميعاد» شمال بحيرة طبريا، وذلك بسبب سوء التربة في منطقة جسر يعقوب وانجراف القبور والرفات نتيجة الفيضانات وفقدان حتى الشواهد وعلامات التشخيص (30).
2- المقبرة الثانية في غور الأردن تقع بين مدينة أريحا وجسر دامية، ويحيطها جدار له بوابة تعلوها لافتة كتب عليها باللغة العبرية «مقبرة لقتلى العدو»، ويوجد فيها أكثر من 100 قبر وتحمل أرقاماً من 5003-5107 ومن غير المعروف إلام تشير هذه الأرقام، بيد أن سلطات الاحتلال تدعي أنها رموز تشير إلى بيانات إضافية لكل جثمان.
3- أمّا الثالثة فهي تسمى «رفيديم» وتقع في غور الأردن أيضاً.
4- والمقبرة الرابعة اسمها «شحيطة» وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا وقد تكون هذه المقبرة مكاناً لرفات من قضوا في معارك الأغوار بين عامي 1965-1975، ويوجد بها حوالي 50 ضريحاً، وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة ينتشر نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، فيما ينتشر وسطها نحو 20 ضريحا.(31)
وهناك مقابر سرية غير معروفة ولم يكشف عنها بعد، يدفن فيها الجيش الاسرائيلي جثامين شهداء سقطوا في أماكن مختلفة من البلاد.

طريقة الدفن في مقابر الأرقام

وهذه المقابر لا تشبه المقابر العادية بأي وجه من الوجوه، حيث تكون بعمق لا يزيد عن 50 سم في أرض رملية، وتكون في صفوف عشوائية متداخلة، وتوضع الجثامين في الحفر الرملية ملفوفة بأكياس نايلون ويتم تمييز الأكياس عن بعضها البعض بكتابة رقم على الكيس بقلم فلوماستر أسود، وفي أحسن الأحوال يكتب الرقم على قطعة معدنية توضع بإهمال إلى جانب الجثمان للتعريف على هويته. واعترفت الدولة في عدد من الردود على محكمة العدل العليا، في الالتماسات التي قدمت من قبل مؤسسات حقوقية لاسترداد جثامين الشهداء، لإجراء فحوصات الـ دي.ان.ايه للتعرف على الجثامين، أن عدداً كبيراً من الجثامين فُقدت من مكانها ولم يتم التعرف على كثير من الرفات بسبب اختلاط الجثامين ببعضها البعض، وثمة جثامين افترستها الوحوش البرية بعد أن زال التراب عنها بفعل الأحوال الجوية(32). ونسبت صحيفة «معاريف»، في عددها الصادر في 15/08/2008، إلى مصدر عسكري قوله أن الربانية العسكرية التي كانت تتولى عملية الدفن وفقاً لأوامر عسكرية صادرة عن قائد المنطقة، كانت تضع المعلومات الشخصية ورقم الجثمان في قارورة زجاجية أو بلاستيكية وتلقي القارورة إلى جانب الجثمان في القبر، ونتيجة لانجراف التربة، خاصة في مقبرة «آدم»، انجرفت الجثامين ومعها القارورات التي اختلطت في بعضها البعض، وكان من الصعب جداً، بل من المستحيل، التعرف على الرفات التي وُجد بعضه على مسافة كبيرة من المقبرة (33).
وصرح مصدر في وزارة العدل، تعقيباً على طلب المحكمة تشخيص والإفراج عن 123 جثماناً «يجب أن نعرف من الذي يدفن الجثامين»(34)، ولم يتم الكشف إلا عن جثمانين اثنين فقط من بين الـ 123 جثماناً طلبت المحكمة معلومات عنها. وتعزو مصادر صحافية هذا القصور إلى حقيقة أن الدولة كانت تكلف مؤسسة التأمين الوطني لمتابعة عملية الدفن، فيما تقوم المؤسسة باستئجار خدمات شركات خاصة، التي بدورها تقوم بدفن الجثمان في الأماكن التي تقع تحت اختيارها، وفي حالة واحدة على الأقل تم استئجار خدمات شركة باسم IES، وكانت هذه الشركة تقوم بدفن الجثامين بتكليف من مؤسسة التأمين الوطني، وتحتفظ بسجلات الشهداء مثل الاسم والرقم ومكان الدفن وغير ذلك. ولكن هذه الشركة أفلست وتمت تصفيتها من قبل مسجل الشركات، وحتى الآن لم يتم العثور على أي سجل من سجلات الشهداء المحفوظة لدى الشركة ولم تستطع الدولة العثور على القبور التي دُفن فيها الشهداء بواسطة الشركة، بسبب فقدان المعلومات والسجلات.
ولا تخفي المصادر العبرية حقيقة أنه حتى سنوات التسعين لم تكن الدولة تولي اهتماماً «بأسئلة مثل من دُفن وأين وكيف يمكن تشخيصه»(35). وتقول مصادر في وزارة العدل إنه حتى الآن لا يوجد في مؤسسات الدولة جهة رسمية تعنى بمقابر الأرقام. وتتوزع المسؤولية على الجيش والتأمين الوطني والشركات الخاصة، وكل جهة تلقي بالمسؤولية على غيرها للتنصل من الاتهامات بالتقصير.
وكانت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، مثل مركز القدس للمساعدة القانونية، قد تقدّمت بعدة التماسات مطالبة بإجراء فحوصات الـ دي.أن.أيه لتشخيص الجثامين، غير أن هذه العملية، ورغم موافقة المحكمة على أكثر من طلب، لم تتم بسبب الصعوبة في الحصول على عينة من الحمض النووي أو بسبب اختلاط الرفات في القبر الواحد نتيجة للمسافة القريبة بين القبور (بين 20-50 سم) وانفتاح القبور على بعضها البعض، أو بسبب فقدان الجثمان نفسه نتيجة انجراف التربة أو افتراسها من قبل الوحوش البرية. وفي حالة معينة، جثمان الشهيد علاء مرشود، وكان قد احتجز جثمانه منذ 17/07/2002، لم تنجح الدولة في العثور على القبر. وتقول النيابة العامة في ردها على المحكمة أن مرشود دفن بواسطة شركة IES «كمجهول في مقبرة جنوب البلاد» ولا يوجد بحوزة التأمين الوطني أو أي مصدر آخر أية معلومة بشأن مكان القبر(36).
وفي ردها على التماسات تقدم بها مركز القدس للمساعدة القانونية أوضحت النيابة العامة، في آذار2017، أن «تشخيص الجثامين ينطوي على جهود كبيرة ويستدعي موارد كبيرة لكل جثمان وجثمان... ورغم الجهود الكبيرة التي وصلت حد التحقيق العلمي الحقيقي، لم تتمكن الجهات المختصة من تشخيص الجثامين المطلوبة»(37).

السند القانوني للدفن في مقابر الأرقام

تجري عملية الدفن بأوامر عسكرية استناداً إلى مادة 133 د من قانون الطوارئ، دون مراعاة الشعائر الدينية لدفن الموتى حيث تقوم الربانية العسكرية اليهودية بمراسم الدفن خلافاً لأحكام القانون الدولي الإنساني الذي يلزم الدولة المتحاربة بدفن الموتى وفقاً للشعائر التي تقتضيها ديانة المتوفى(38).
ويلاحظ من الأوامر العسكرية التي حصل الباحث على نسخة منها أنها معيبة وتفتقر إلى الكثير من الإجراءات التي يقتضيها القانون الدولي الإنساني في حال اضطرت دولة الاحتلال لدفن ضحايا الحرب. على سبيل المثال، صدر أمر عسكري بتاريخ 15/01/1999 بدفن الشهيد عماد عوض الله الذي استشهد في أيلول 1998 وكان نص الأمر كما يلي:

سرّي 15/01/1999
أمر دفن
بموجب صلاحياتي الممنوحة لي وفقاً للمادة 133 د من قانون الطوارئ 1954 فإني آمر بأن تدفن جثة عماد أحمد إسماعيل عوض الله
في مقبرة قتلى العدو قرب جسر آدم
إحداثيات 16752001 قطعة «و» رقم القبر 5127
بواسطة وحدة الدفن التابعة للجيش الإسرائيلي
موشي يعلون


ومن القراءة السريعة لهذا الأمر نجد أنه:
1- لم يتضمن معلومات كافية عن الجثمان واكتفى بالاسم الرباعي فقط دون رقم الهوية مثلاً ولم يتضمّن أيضاً تعليمات بشأن وضع لوحة معدنية مع الجثة تحمل الاسم والرقم ومعلومات تشخيصية أخرى.
2- لم يتضمن الأمر أخذ عينة الحمض النووي لإجراء موائمة بين الجثة والعائلة
3- لم يتضمن الأمر الاحتفاظ بتقارير طبية ومعلومات عن الوفاة ضرورية للعائلة
4- لم يتضمن الأمر تعليمات لإجراء الدفن وفقاً للشريعة الإسلامية وعادات العائلة المعروفة تماماً للجيش الإسرائيلي.
5- تمت عملية الدفن دون استدعاء العائلة المعروفة من حيث العنوان والسكن.
6- لم يتضمن الأمر قراراً بالدفن المؤقت بل يتجاهل ذلك مما يعني نية القائد العسكري أن يكون الدفن دائماً ونهائياً.
والعيب الأبرز لهذا الأمر هو مخالفته الصريحة للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكولات المرفقة والتي تمنع دولة الاحتلال من دفن الضحايا إلا في حالات الضرورة وعندما يكون من الصعب تسليم الجثمان، أو في حالة التحقيق، وفي هذه الحالات يكون الدفن مؤقتاً ويجري وفقاً لشروط تحفظ كرامة الميت وتضمن التعرف عليه في المستقبل(39).
يجدر الإشارة إلى أن هذه الأوامر لم تصدر في كل الحالات وإذا صدرت فلم يتم العمل بموجبها في كل الحالات أيضاً، وهذا تفسير الجيش لحقيقة عدم معرفة مكان وهوية الكثير من الشهداء الذين دفنوا في مقابر الأرقام مثل الشهيد أنيس دولة، الذي ارتقى في سجون الاحتلال عام 1980، ولم يتم العثور على مكان دفنه لغاية الآن(40). وفي رده على تقرير نشرته مؤسسة «بتسيلم»، أشار متحدث باسم الجيش إلى أنه في حالات كثيرة لم يكن الشهداء يحملون دلائل تشير إلى هويتهم، لذلك كان من الصعب تشخيصهم(41). ولكن هذا التبرير الذي تكرر في كل مرة لم يتم فيها العثور على رفات شهيد، لا ينطبق على الشهيد أنيس دولة الذي ارتقى في السجن ومعروف الهوية والتفاصيل، والأرجح أنه دفن في مقابر الأرقام دون مراعاة لأية تفاصيل تشخيصية ودون توثيق لمكان الدفن، كما جرى مع عدد كبير من الشهداء، وربما يكون هذا المبرر الذي يخفي من وراءه حقيقة أن الجثامين دفنت في مكان معروف وبأمر عسكري ولكن الإهمال الكبير في الدفن والعناية بالقبور أدى إلى انجرافها وفقدان الرفات أو اختلاطه، مما دفع الجيش، منعاً للإحراج، للإدعاء الشائع والمتكرر بأن الشهداء لا يحملون إشارات تشخيص.
ويجدر التأكيد أن هذه الأوامر، التي تصدر عن القائد العسكري، لا تنشر على الملأ ولا يتم تداولها إعلامياً، وكذلك لا تُرسل نسخة منها إلى العائلة لتعرف أن ابنها مدفون أو سيدفن، بل تبقى سرية، ولا يتم نشرها إلا في إطار القرارات والوثائق التي تقدمها النيابة للمحكمة للرد على الالتماسات وطلبات العائلات.
وكان مركز القدس، في التماس قدمه في وقت سابق، قد أكد للمحكمة أن «الملتمس 3 لم يحصل على أية معلومة رسمية بشأن مكان دفن شقيقه المذكور أعلاه» (42).
وكانت قُدمت العديد من الالتماسات والطلبات من عائلات الشهداء لإجراء فحوصات الحمض النووي وزيارة القبور والتأكد من سلامتها، إلا أن الجيش لم يسمح بذلك رغم صدور قرارات من المحكمة بحجة ضياع الرفات و/أو القبور نفسها.
في ملف التماس 4466/2016 «عليان ضد دولة إسرائيل»، وفي جلسة المحكمة العليا في 17/09/2017 سمعت عائلات الشهداء، ولأول مرة، بأن أربعة من جثامين الشهداء قد دفنت في أيار 2017 بأمر عسكري، ودون علم العائلات أو وسائل الإعلام أو حتى محامي العائلات، وقال ممثل الحكومة أن أوامر عسكرية صدرت بتاريخ 07/05/2017 بدفن جثامين الشهداء محمد الفقيه وعبد الحميد أبو سرور ومحمد الطرايرة ورامي عورتاني في مقابر خاصة بـ«قتلى العدو».
وربما بسبب تقديم التماس بشأن هذه الجثامين ما زالت المحكمة تنظر فيه، تميّزَ الأمر العسكري ببعض التعليمات التي لم تكن في الأوامر السابقة، فهو يحدد:
1- السند القانوني لصلاحية إصدار الأمر (المادة 133 من قانون الطواريء)(43)
2- ذكر الإسم (ثنائي) ورقم الهوية
3- تحديد مكان الدفن (عميعاد) ورقم الصف ورقم القبر
4- تحديد يوم وساعة الدفن (يوم 08/05/2017 ما بين الساعة 08:00– 10:00 فقط)
5- الدفن يتم بحضور من يسمح له بذلك بقرار من القائد العسكري أو من ينوب عنه
6- الدفن يتم عن طريق الربانية العسكرية ويسجل في سجل المقبرة
7- أخذ عينة الحمض النووي من الجثمان قبل الدفن من أجل التشخيص المستقبلي
8- الجثمان يوضع في تابوت معدني مغلق (44)

ويلاحظ من تفاصيل الأمر العسكري أنه يتضمّن تعليمات أكثر دقة من التعليمات في أوامر سابقة مثل تحديد الاسم ورقم الهوية وتحديد مكان الدفن على وجه الدقة وأخذ عينة الحمض النووي قبل الدفن. ولكن الأمر نفسه ينطوي على مخالفة صارخة لاتفاقيات جنيف من حيث أنه:
1- صدر بحق جثمان معروف الهوية وعائلته معروفة لسلطات الاحتلال الحاجزة.
2- لا يحمل الأمر صفة التوقيت ولا يوجد أي بند يشير صراحة إلى ذلك.
3- يتضمن الأمر تعليمات بأن تتولى الربانية العسكرية إجراءات الدفن على خلاف قواعد القانون الدولي الانساني التي توجب عملية دفن ضحايا الحرب وفقاً لعادات وديانة المتوفى.
4- يتضمن الأمر تعليمات بعدم حضور احد عملية الدفن إلا من يسمح له القائد العسكري، الأمر الذي يعني عدم مشاركة الأهل في الدفن ومشاهدة الجثمان ودفنه بالطريقة اللائقة
5- تنفيذاً لهذا الأمر فقد تمت عملية الدفن في اليوم التالي دون ابلاغ العائلة بالقرار ودون منحها فرصة للاعتراض بالطرق القانونية.

رأينا فيما سبق أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحتجز جثامين الشهداء في ثلاجات معهد الطب الشرعي ومقابر الأرقام على نحو يخالف تماماً القانون الدولي ودون أية مراعاة لمشاعر العائلات ودون أية أسباب توجب الاحتجاز، ويتم الاحتجاز في ثلاجات معهد الطب الشرعي في ظروف احتجاز سيئة تترك آثاراً عميقة على الجثامين وكذلك في مقابر الأرقام والموزعة في أماكن مختفلة في شمال فلسطين، وهي مقابر سطحية وعشوائية يُدفن فيها الشهيد وفقاً لأمر عسكري صادر عن قائد المنطقة استناداً إلى مادة 133 من قانون الطوارئ. ويرى الباحث أن الأمر العسكري الذي يصدر بشأن دفن جثمان شهيد في مقابر الأرقام، بعد احتجازه لفترة تطول أو تقصر في الثلاجات، يفتقد إلى المسوغ القانوني وهو معيب بعيب الاختصاص في القانون المحلي (الإسرائيلي) ومعيب بمخالفته لأحكام القانون الدولي الإنساني، التي تؤكد أن دفن الجثامين في الدولة الحاجزة يكون مؤقتاً وفي حالات تضطر فيها الدولة للدفن إلى حين توفر الظروف لإعادة الجثمان.

* محامي - القدس المحتلة

هوامش:
(1) ويكيبيديا /https://he.wikipedia.org/wiki
(2) المصدر السابق
(3) المصدر السابق
(4) وزارة الصحة الإسرائيلية، تقرير لجنة التحقيق في عمل معهد الطب العدلي برئاسة القاضي المتقاعد أرييه سغلسون (2001)
(5) صحيفة حدشوت 2، يفعات غليك 19/12/2009
(6) تقرير موسع عن التحقيق في «يديعوت أحرنوت» عدد 30/06/2002 بقلم رونان بريغمان الذي أجرى التحقيق
(7) المصدر السابق
(8) المصدر السابق
(9) المصدر السابق
(10) بروفيسور مائيره فايس «على جثثهم الميتة»، تل أبيب، ريسلنغ، 2014
(11) صحيفة «هآرتس»، إسحق ايئور 22/03/2014
(12) المصدر السابق
(13) المصدر السابق، كذلك أنظر TRT العربية، سرقة أعضاء الشهداء.. تاريخ حافل بالجرائم يلاحق الاحتلال، 05/11/2015
(14) «هآرتس» 05.11.2015 المصدر السابق
(15) حدشوت 2، أين اختفت الأعضاء من أبو كبير يفعات غليك، 19/12/2009
(16) المصدر السابق
(17) المصدر السابق
(18) TRT العربية 05/11/2015
(19) «يديعوت أحرنوت»، رونان برغمان 30/06/2002
(20) المصدر السابق
(21) رغم قرار النائب العام الفلسطيني بتشريح جميع جثامين الشهداء التي يتم تسليمهم قبل الدفن فإن هذا القرار لم ينفذ ولم يتم تشريح إلا عدد محدود من الجثامين ولم تنشر نتائج التشريح حتى الآن، وكان ذوو الشهداء وأعضاء من المجلس التشريعي وفعاليات وطنية قد وقعت في 30/12/2015 على وثيقة شرف تؤكد على ضرورة التشريح ومعرفة أسباب الوفاة وإعداد ملف قانوني لكل شهيد.
(22) لقاء مع طارق أبو جويعد من الدائرة القانونية للطب الشرعي في وزارة العدل الفلسطينية، «الحدث» 30/12/2015
(23)موتي غال، صحيفة «والا» 31/12/200
(24) «يديعوت أحرنوت» 30/06/2002
(25) إفادة ذوي شهداء والد الشهيد حسن مناصرة ووالد الشهيد عبد المحسن حسونة وتجربة الباحث نفسه
(26) نتحفظ عن ذكر الأسماء بناء على رغبة ذوي الشهداء
(27) وكالة «معا» الإخبارية 31/12/2015
(28) أنظر «لنا أسماء ولنا وطن» من منشورات مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، بدون تاريخ، ص 36
(29) أنظر الصفحة الإلكترونية «وفا» http://www.wafa.ps
(30) نداب زئيفي، «مقابر قتلى العدو» «معاريف» العبرية 15/08/2008
(31) أنظر ورقة قدمها مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان للمؤتمر الدولي لنصرة قضية الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي المنعقد في المملكة المغربية أيلول 2010 http://www.jlac.ps
(32) نداف زئيفي، «معاريف»، المصدر السابق
(33) المصدر السابق، وانظر أيضاً تقريرا مهمّاً بقلم سارة ليبوبتش –دار معاريف 12/09/2014
(34) أور كاشتي، «إسرائيل تعترف بدفن جثامين فلسطينيين نفذوا عمليات في إسرائيل»، «هآرتس»، 10/04/2017
(35) المصدر السابق
(36) المصدر السابق
(37) المصدر السابق
(38) أنظر المواد 17،16 من اتفاقية جنيف الأولى
(39) أنظر الدكتور محمد فهاد الشلالدة، القانون الدولي الإنساني، ص 114-116
(40) أنظر «لنا أسماء ولنا وطن» من منشورات مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، بدون تاريخ، ص 90
(41) تقرير «بتسيلم»، «جثث ممنوعة»، من منشورات «بتسيلم» - مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة 1999
(42) في متن نص التماس قدّمه محامو مركز القدس للمساعدات القانونية وحقوق الإنسان للإفراج عن جثامين سبعة شهداء، الالتماس غير مؤرخ ويحتفظ الباحث بنسخة منه
(43) أنظر أمر الدفن الصادر في 07/05/2017 للشهيد عبد الحميد أبو سرور والمرفق في ملف 6644/2016 «عليان ضد شرطة إسرائيل». ويذكر أن المحكمة ناقشت مطولاً المادة 133 كمصدر للصلاحية وقررت أنها لا تكفي لاحتجاز الجثامين
(44) أمر الدفن الصادر في 07/05/2017، مصدر سبق ذكره