موعد اللقاء مع المهرّب «الأكبر» في لبنان، ج. غ.، يمكن أن يؤجّل لأكثر من 3 أسابيع، وعند لقائه يعطيك موعداً آخر لبدء العمل بالأوراق بعد أكثر من 7 أشهر على الأقل. عند الدخول إلى مكتبه الفخم الكائن في مدينة بيروت مقابل إحدى كليات الجامعة اللبنانية، بعد انتقاله من ساقية الجنزير، ترى حقائب السفر بأعداد كبيرة وعشرات الفلسطينيين ينتظرون موعدهم. رغم الأعداد الكبيرة للحاضرين بعد توقّف الهجرة بسبب جائحة «كورونا»، لا تسمع سوى صوت مواء القطط. فالمهرّب يشفق على القطط أيضاً، ولديه العشرات منها. أجواء أمنيّة تسيطر على المكان. مكان مكشوف للعامّة ومحمي من بعض كبار رجال السياسة والأحزاب في لبنان. في لقاء «الأخبار» معه، ينفي أي تعامل له مع الفلسطينيين. أمّا الفلسطيني، فيأتي إليه وبحوزته جواز سفره، يجلس أمامه فيقول «بكل صدق» إن بعض الطرقات مقفلة إلى أوروبا وعدد المنتظرين منذ أشهر بالآلاف. يعطيه موعداً للسفر بعد أشهر على أن يدفع ما يقارب الـ10 آلاف دولار عن كل فرد في الأسرة.
(هيثم الموسوي)

لا يمكن تفسير غرق شابٍ في البحر وخسارته المالية وعودته إلى لبنان ومحاولة السفر مرّة أخرى سوى أن الأمل بالسفر لدى هؤلاء هو هربٌ ناتج من حياة مريرة في المخيّم. فرحلة الهجرة تبدأ بالبحث عن مهرّب سريع، أي يؤمّن الفيزا بأقل من سنتين. هي آمال الفلسطينيين بحياة أقل صخباً من مخيّمات لبنان. عائلات المخيّم لا تزال تستفيق على أخبار تشرّد أولادها في الغابات وطرقات أوروبا بعد أن أقفلت الباب على أخبار الغرق في البحر مقابل شواطئ تركيا أو اليونان. ليس بالخيار السهل لكنه الخيار الأفضل بالنسبة لابن المخيّم في لبنان.
لا يكل الفلسطيني من تجربة أي مهرّب يظهر على الساحة الفلسطينية. ففي مخيّم الرشيدية بالتحديد يتم، بشكل مبالغ فيه، تداول موضوع السفر إلى أوروبا. ظهر أخيراً ع. ح.، صاحب مكتب السفريات في حارة صيدا. يسلك هذا المهرّب طريقاً آمناً للوصول إلى تركيا. إذ لا جديد بالمسار. تدفع له ألفي دولار ويقدّم لك فيزا شنغن للسماح لك بالدخول إلى أوروبا. كان أوّل الحاصلين عليه شاب قاصر من مخيم الرشيدية، م. ع.، حزم حقائبه وقرّر السفر ليتم توقيفه في مطار بيروت بسبب الفيزا المزوّرة. علت الأصوات في المخيّم ليتبيّن أن أكثر من 280 فلسطينياً دفعوا لـ ع. ح. على أمل الوصول إلى أوروبا. المصوّر الصحافي حبيب كان قد دفع له 6 آلاف دولار مقابل فيزا لثلاثة أشخاص له ولأخته وزوجها، على أن يكمل الباقي عند تحديد موعد السفر. يتولّى والد ع. ح. التواصل مع كل من دفع له المال. ويتصدّر المشهد محاميه ربيع بزي. في حديث إلى «الأخبار»، يقول الأخير إن موكله مغرّر به من قبل مهرّب آخر وهو يسعى اليوم لبيع جميع ممتلكاته لتسديد الأموال. تؤكد مصادر «الأخبار» أن المهرّب المشغّل لعدد من المكاتب في المخيّمات هو ط. م. ولديه عدّة أسماء يتعامل بها مع الفلسطينيين.
ابتكر المهرّبون أساليب جديدة بعد إغلاق منفذ البحر وجائحة «كورونا»


عشرات الشباب تحدّثوا إلى «الأخبار»، انطفأ «الحلم الأوروبي» لديهم، يسعون لاسترداد أموالهم والمحاولة مجدّداً مع المهرّب الأكبر والأكثر ثقة. محمود، من مخيّم برج البراجنة، الذي غرق عام 2015 مقابل شواطئ تركيا وعاد إلى لبنان، قرّر بيع منزله في المخيّم والعيش مع زوجة أبيه إلى أن يحين موعد هجرته جوّاً هذه المرّة. خسر في المرّة السابقة 5 آلاف دولار، وبعد عدة سنوات قرّر أن يجرّب مرّة أخرى. أمّا حبيب، فرغم تجربته السابقة بالسفر إلى أوروبا عام 2017 مع مهرّب من بيلاروسيا، و«نصب» المهرّب ع. ح.، يسعى مجدداً للهرب «بذكاء». في المرّة الأولى سافر من لبنان إلى كوبا ومن ثم إلى إسبانيا. انتظره «الإنتربول» في مطار مدريد واحتجزه لأيّام. من ثم جرّب المخيّمات في ألمانيا وبلجيكا. أغلب الفلسطينيين يحاولون الذهاب إلى إسبانيا بسبب القانون هناك. يختلف الأمر عن بلجيكا التي تعيش فيها مع أكثر من 20 من مختلف الجنسيات في غرفة واحدة ومصروف حوالى واحد يورو في اليوم. عاد بسبب عدم حصوله على صفة لاجئ في إسبانيا بعد ترحيله من بلجيكا. دامت رحلته أكثر من سنة ونصف، لم ير سوى الجوع والتشرّد للفلسطينيين: «فقط من يعمل بتهريب المخدرات هو من يجني المال في أوروبا».
لا يكتفي المهرّبون بهذه الطريقة، إذ بدأوا بابتكار أساليب جديدة بعد إغلاق منفذ البحر وجائحة «كورونا». عمد بعض المهرّبين إلى إخراج أكثر من 30 فلسطينياً بطائرة خاصة إلى إسبانيا بأوراق رسمية، وعند وصولهم مزّقوا جوازات سفرهم وطلبوا اللجوء. وما يبرّر هذه القوّة هو التحالف القوي لهؤلاء المهرّبين مع بعض الموظّفين في المديرية العامّة للطيران وبعض النافذين في البلاد المستفيدين من إفراغ المخيمات.