هذا المقال محاولة لإيفاء بعض الدّين الذي نحمله في رقابنا إلى الشهداء. نحاول من خلاله الخروج من الأيقنة الصورية للشهيد باسل الأعرج نحو نقاشٍ جوهريّ لأفكاره وطروحاته. سيُذكَرُ باسل في المقال بصيغة الحاضر لكونه دائم الحضور في الذاكرة والوعي."لماذا نذهب إلى الحرب؟" هو عنوان إحدى الرسائل التي خطّها الشهيد باسل الأعرج والتي تحوّلت لاحقاً إلى مزجٍ صوتي بعد استشهاده. الرسالة المُثقلة بالأفكار تنطلق من البُعد الفلسفي للسؤال المطروح، عبر نقد المفاهيم الجامدة للحقيقة والشكّ. ثمّ يتعمّق التناول ليركّز على مفهوم "الرومنسية" في تعريف الدوافع الفردية والجماعية لخوض الحرب عند أي مجموعة بشرية. يعتبر باسل أنّ الذهاب إلى الحرب هو وسيلة الإنسان لإشباع رومنسيّة البطولة بداخله، وهو في الوقت عينه أداة تحطيمٍ لهذه الرومنسية. وفي تعريفه لرومنسية البطولة، يعرّج باسل على اختلاط الدوافع الفردية والجماعية في رحلة الفرد نحو الحرب. وفي هذا السياق، يذكر مجموعة جاسر البرغوثي الفدائية وحكاية الصفعة التي يُحكى أنّها كانت دافعاً خلف تشكيل المجموعة. بوضوح، يرمي الأعرج إلى توضيح حاجة الجمهور والأفراد إلى الرومنسية لترسيخ دوافعها نحو المواجهة. ويتطوّر "مونولوج" باسل ليشمل دور الحداثة في إعادة رسم الرومنسية وفصلها بين الذاتي والمجتمعي في الوعي الفردي، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن الرومنسية الثورية جزءٌ أساسي من رحلة الثائر، وهي الحجر الأول الذي لا بدّ للثائر أن يحمله قبل أن يحطّمه بنفسه مع اصطدام الفكرة بالتجربة. أو كما يختصرها باسل نفسه بالعبارة الشهيرة:
"العزّ في رؤوس الجبال... والجبال في صدور الرجال"
إلى جانب متعة القراءة والفائدة الثقافية التي يكسبها القارئ، فإنّ أكثر ما يلفت في الرسالة هو أنّها اختصارٌ لسيرة باسل نفسه. الرحلة التي يصفها باسل من الرومنسية الثورية المجرّدة إلى الفعل الثوري المدفوع بفكرة رومنسية هي الرحلة ذاتها التي خاضها باسل والكثير من شهداء فلسطين.
الرحلة نحو "عقلنة الرومنسية" قوامها مراحل ثلاث: السماء ثمّ الأرض وصولاً إلى الإنسان. في مرحلة "السماء"، لا بدّ من إطلاق المخيّلة (ومعها الإرادة) بلا حدود نحو طموحات مجرّدة قد تبدو في بعض الأوقات مجنونة: "تحرير فلسطين"، "الوحدة العربية"، "الحرية"... أهدافٌ أوّلية تتشكّل بعد استيعاب الإحساس الأوّلي بالظلم، وتترسّخ في الوعي لتصبح هي بذاتها الضوء البعيد الذي يحثّ على انطلاق المسير.
نزولاً إلى "الأرض"، تبدأ الفكرة الرومنسية مرحلة احتكاكها بالواقع. فالجبال جميلةٌ عن بُعد، لكنّ الصعود إلى قممها مشقّة. هنا يخوض العقل أدقّ رحلات الشكّ والبذل وضبابية التقدير. هل نتقدّم أم نتراجع؟ هل نثبت على أدواتنا أم نغيّرها؟ في هذه الرحلة، يسقط كثيرون في أحد فخّين: الأوّل هو فخّ الهزيمة المُودي إلى العدمية. أمّا الثاني، فهو فخّ الهروب إلى المربّع الأوّل: الرومنسية المجرّدة. في الحالتين، تنتهي الرحلة ويصبح الفناء مسألة وقت لا أكثر. والخطير في ذلك أنّ الفناء هنا لا يقتصر على الأفراد، بل قد يطاول أمّةً بأسرها.
البحث عن «عقلنة الرومنسية« لا يكون خلف الشاشات بل هناك في الخنادق وضمن عالمٍ تسير فيه عقارب الزمن على وقع سؤال: «ماذا فعلتُ اليوم للبلاد؟«


أمّا من ينجح في التغلّب على وحل الأرض مصيره الارتقاء إلى مرحلة "الإنسان". والإنسان هنا هو تجسيد الكيان الثابت على الأرض في سعيه إلى السماء. في هذه المرحلة، يكون الساعي قد طوّر الأدوات المادية والفكرية اللازمة ليس فقط لتحقيق الهدف الأوّلي، بل لترسيخ استمراريته وثباته عبر الزمن. في هذه المرحلة، لن نقلق على مصيرنا بعد "التحرير"، ولن نتردّد في التضحية لتحقيق الهدف الأوّلي، لأنّ الفشل الوحيد في هذه المرحلة هو عدم التضحية. ونتاج التضحية هنا هو الخلود، سواء بالشهادة أو بالحرّية.
هذه الرحلة التي وصفها باسل الأعرج قبل أن يخوضها لا تقتصر على الأفراد، بل هي رحلة شعوبٍ وأمم تسعى لتحقيق حرّيتها واستعادة مكانتها في العالم. وهي الرحلة التي يجب على الكثيرين من أبناء أمّتنا خوضها عوض تجنّبها، وذلك بالعودة إلى السؤال البديهي، لكن بتصرّف: لماذا لم نذهب (بعد) إلى الحرب؟
إنّ البحث عن رحلة "عقلنة الرومنسية" لا يكون خلف الشاشات، بل هناك في الخنادق والأنفاق والساحات، في ثبات المبادئ وضمن عالمٍ تسير فيه عقارب الزمن على وقع سؤال: "ماذا فعلتُ اليوم للبلاد؟" هناك، تتحطّم الرومنسية المجرّدة لتولد مكانها واقعية حالمة لخّصها إرنستو جيفارا بعبارته الشهيرة: "فلنكن واقعيين ونطالب بالمستحيل".
ختاماً، في أحد مشاهد مسلسل "التغريبة الفلسطينية" المقتبسة من رواية "رجال في الشمس" للشهيد غسان كنفاني، يخوض ثلاثة رجالٍ رحلة عبور الصحراء بين الكويت والعراق. من دون دليل، يسيرون تائهين خلف "ضوءٍ" بعيد، فيسقط أحدهم مستسلماً للموت وهو يردّد "الضو كذّاب". وفي اليوم التالي، يستفيق الناجيان على بُعد أمتارٍ من خيمةٍ كانت هي مصدر الضوء ليلاً. هو مشهدٌ قد يساعدنا على فهم مراحل الرحلة من الرومنسية المجرّدة إلى الواقعية الحالمة.
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التغيير، بات لزاماً علينا أن نتسلّح بكلّ ما تركه لنا الصادقون من تجاربٍ وأفكار، وأن نسأل أنفسنا اليوم في ذكرى باسل الأعرج: لماذا لم نذهب بعد إلى الحرب؟