إن أبرز الأدوات الاستعمارية الصهيونية والغربية الراهنة تجاه فلسطين هي المجهود الممنهج لنقض وإنهاء مقاربتها كقضية استعمارية. وذلك عبر محاولة نزع خصوصيتها وإلحاق فهمنا لها كنوع من أنواع انتهاكات حقوق الإنسان، كمثيلاتها في كل مكان، وترفع شعارات أن الدم في بقعة جغرافية ما ليس أغلى من الدم الفلسطيني، فهنالك قضايا مأسوية في كل الكوكب. وعربياً فلكل شعب قضيّته، وتستخدم من دون براءة ألفاظ القضية السورية والقضية العراقية، وما فلسطين سوى قضية من جملة قضايا ـــــ وحدهم اليمنيّون يرون ما يعيشونه ملحقاً لمركز الصراع في فلسطين وليس العكس.والاستدراك هنا أنه حتى محاولة الإلحاق هذه مستحيلة، فمهما تم تحوير المصطلحات تبقى فلسطين بالمعنى التاريخي وعلى أرض الواقع قضية استعمار للأرض والإنسان، ولا مكان لها في عالم تسود فيه قيم حقوق الإنسان الغربيّة، حيث تبقى إسرائيل في فسطاط العالم الحر والليبرالي بشكل جوهري وثابت. بيد أن المسألة أنه منذ أوسلو، وفي أحد أكثر مشاريع الإبادة البطيئة تعقيداً، تمّت عملية صناعة وهم عبر شبكة امتيازات مادية وبنى المنح الخارجية أنه أنك وكفلسطيني لو استخدمت أدوات حقوق الإنسان وأثبتت للعالم الغربي أنك متحضّر بما فيه الكفاية وتشاركه القيم فستصل إلى مكان ما وتنتزع حقوقك وتستنفر المجتمعات الغربيّة معك. الأمر أكثر سوءاً من ذلك، فحتى إن فهم أغلب هؤلاء الناشطين أنهم كشعب فلسطيني لن يصلوا إلى مكان تتحوّل فيه المسألة إلى عملية التمسّك بالامتياز الفردي الذي سيحصلون عليه من خلال هذه البنى وعبر تبني هذا الخطاب.
مفاعيل شهادة باسل أنتجت تحفيزاً وانخراطاً ووعياً وإعادة بث لروح النضال التي يحاول الصهاينة اغتيالها بشكل بنيوي


التصفية الاستعمارية منذ أواخر الثمانينيات هي في تحويل الثورة الفلسطينية وحشود المقاتلين إلى مجاميع من ناشطي حقوق الإنسان، في عالم لا يعترف بإنسانيّتهم بالمقام الأوّل. فالعمليّة مجرّد استهلاك للطاقات وإدخال الشعب في دوامة من السراب حتى يكمل الصهاينة سطوتهم الفعليّة على الأرض. هذه الخلفيّة مهمّة لإعادة التأكيد أن كل مقاربة لفلسطين يجب أن تنطلق من أساس أنها قضية استعمارية، فهذا هو سياقها التاريخي، وهذا ما يعطيها كلاً من خصوصيّتها ومركزيّتها.
فعلى عكس الخطاب السائد حالياً، لا تكتسب القضايا قيمتها عبر معايير ما يطلق عليه حقوق الإنسان، أي حزمة القيم الكونية والمفترض سموّها وتعاليها، والتي لها حرميّة أشبه بتلك التي سبقتها والقائمة على الأديان. فكما يلاحظ جورج قرم تصوّر الصراعات البشرية اليوم كصراع للحفاظ على قيم منزّهة وثابتة. فتلبس الصراعات الدولية والسياسات الاستعمارية لبوس الدفاع عن قيم الديموقراطية والحرّية وحقوق الإنسان، ولذلك نرى تسمية الحملات العسكرية الغربية "تدخلاً إنسانياً" أو "نشر الديموقراطية والحرّية". حيث تحوّل الهيمنة الإعلامية للدول الغربية الصراع إلى فسطاطين، خير وشر، من هم مع الحرّية وحقوق الإنسان والديموقراطية ضد المستبدين والمتمرّدين على الحضارة وأعداء هذه القيم. وبهذه الطريقة تحديداً يتم إخفاء النوايا ــــ المصالح المادية والسياسية وأهدافها الاستعمارية.

أن تفهم الضفة
إن أسوأ تبعات عملية الإلحاق هذه هي اغتراب المواطن العربي عن فهم حقيقة ما يعيشه الفلسطيني، في ظل سطوة تصوّر أن جلّ ما في المسألة هو القمع والانتهاكات، فيصبح الفلسطيني تحت الاحتلال والمواطن العربي تحت حكم السلطة العربية المستبدة كلاهما يعيشان التجربة ذاتها. من هذا المنطلق، نحن بحاجة دائمة الى إعادة شرح المنظور الاستعماري لفلسطين وتحديداً الضفة الغربية والقدس.
تكمن المسألة في فهم أن ما تعيشه الضفة ليس فقط تجسيداً لواقع استعماري، بل إن الواقع الذي يعيشه الفلسطيني في الضفة الغربية هو بالمعنى التاريخي المُطلق أعقد وأضخم عمليات الهندسة الاستعمارية، فهو واقع قائم على نتاج خبرات استعمارية عمرها يزيد على خمسة قرون. في الحديث عن المشروع الصهيوني نحن نتحدث عن مجموعة بشرية قامت بدراسة ومراكمة التجارب الاستعمارية منذ وصول الإسبان إلى سواحل أميركا اللاتينية وإبادة شعوب الأزديك والأندكا، مروراً بتجارب البريطانيين والفرنسيين في كل من الهند وأفريقيا، وبطبيعة الحال الإبادات الأميركية للقبائل الهندية، ومن ثم لتأتي وتطبق خلاصاتها على شعبنا الفلسطيني، سواء بالمضمون العسكري على غزة أو في مضمونها الأمني والمعنوي ترغيباً وترهيباً في الضفة الغربية؛ لعب على التناقضات وهندسة المجتمع ونقاط ضعفه وترويضه، وكل ذلك عبر استخدام أكثر الوسائل التكنولوجية تقدّماً. ليصل الأمر بالصهاينة إلى تسليع هذه المعارف الاستعمارية ومحاولة بيعها كتجارب لمختلف دكتاتوريات العالم.
أن تفهم الضفة من هذا المنطلق، أي ليس كمجتمع تحت سلطة قمع وانتهاكات، بل تحت سلطة استعمارية، حيث تمسي جميع أبعاد الحياة هي ضمن عملية ترويض المجتمع. من هندسة التشكيل الطبقي للمجتمع بشكل يعمل على وهنه وضعفه الذاتي إلى استغلال البنى التقليدية والعشائرية إلى أنظمة الترغيب بالامتيازات والترهيب بالأسر والقتل وهدم البيوت. ونحن اليوم نتكلّم عن أجيال ولدت ضمن هذه البنية التي أقامها الصهاينة لإنتاج وترويض جيل منذ ولادته.
إنه بمجرد أن نعي هذه الصورة نكتشف أنه في ظل كل هذا تكتسب عملية النضال في ظل هذه البنية معاني وقيماً أخرى، فحسابات الردع وتبعات الفعل المقاوم وجدواها هنا مختلفة عن سابقاتها من مراحل النضال الفلسطيني، فهي حتماً أصعب. وعليه، فإن الدور التاريخي والاجتماعي الذي تلعبه قيمة الشهادة يكتسب مفاعيل أهم. وهذا تحديداً ما يميّز باسل الأعرج، أغلبنا لم يعرف باسل قبل شهادته، فهو من الشخصيات التي تولد يوم شهادتها. فلقيمة شهادة باسل دور مختلف، فمفاعيلها أنتجت تحفيزاً وانخراطاً ووعياً وإعادة بث لروح النضال التي يحاول الصهاينة اغتيالها بشكل بنيوي، وما تجديد ذكراه اليوم سوى دليل على ذلك، دليل على أن جدوى مقاومته مستمرة وستستمر.