«زعران الدولة»

اعتقدت الأم التي كانت توصل أولادها إلى المدرسة في منطقة الحمرا صباح أمس أن الصوت المزعج والعالي خلف سيارتها كان يصدر من «سايرن» سيارة إسعاف تنقل إلى المستشفى مريضاً في حال الخطر.
توتّرت وهي تبحث عن مكان تركن فيه سيارتها لتفسح المجال أمام مرور الإسعاف المفترضة، وتملّك الذعر بالأطفال بعد سماعهم صراخ مسلحين من داخل سيارة رباعية الدفع «تجرّ» خلفها موكب سيارات «مفيّمة» يقلّ شخصية سياسية. «مين هول؟ شو في؟»، سألت السيدة عجوزاً كان يمر في الشارع، فأجابها «هول زعران الدولة يا مدام»!
مثل هذه المواكب يرافقها في العادة انتشار مسلحين باللباس المدني على مفارق الطرق، «يطمئن» المواطنون إلى أنهم ليسوا تابعين لميليشيات بعد ملاحظتهم كلمة «استقصاء» أو «مخابرات» أو «معلومات» على سترات يرتدونها أحياناً. وقد يتحوّل هؤلاء فجأة إلى شرطة سير، يدني كل منهم جهاز الاتصال اللاسلكي من أذنه، ثم يقرر ما إذا كان عليه إغلاق الطريق بهذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه تسهيلاً لمرور الموكب من دون اكتراث للزحمة الخانقة التي يحدثها.
هذا مشهد «روتيني» في بيروت، لكنه بات أكثر تكرراً، وربما أكثر تنفيراً، بعد تشكيل الحكومة وتكليف قاض برئاستها، ربما بسبب حاجة بعض الرؤساء والوزراء والمديرين والضباط إلى الحفاظ على أمنهم الشخصي، علماً أن انتشار مسلحين بلباس مدني مستخدمين أدوات اتصال لا سلكية بدائية يشكل مصدر تهديد لأمن هؤلاء وسلامتهم وليس العكس.
فالبلبلة التي يحدثها مرور الشخصية تدل إلى مكانه حتى لو اختبأ خلف الزجاج الداكن لسيارته المصفّحة. وبعد سلسلة طويلة من الاغتيالات في لبنان شملت بعض من كان لديهم أكبر المواكب الأمنية وأكفأ طواقم الحماية وأكثرها احترافاً وتجهيزاً وخبرة، لا بد من الاعتراف بأن الحماية لا يمكن أن تنجح تماماً إلا بالتخفي. أما ما تقوم به الأجهزة الأمنية والعسكرية المسؤولة عن أمن الرؤساء والوزراء والنواب والمديرين والضباط فهو عكس ذلك تماماً.
إذ بات مرور هؤلاء في الشارع استعراضياً لتخويف الناس والتنمّر عليهم وإرهاب الأطفال بـ«هيبة» الدولة تماماً كالترهيب الذي كانت تمارسه عناصر الميليشيات في الحرب الأهلية.
وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر، ما هي الغاية من بدعة عدم ارتداء ضباط وعناصر الشرطة القضائية وفرع المعلومات والاستقصاء في قوى الأمن الداخلي ومديرية المخابرات في الجيش والأمن العام وأمن الدولة بدلاتهم العسكرية الرسمية أثناء قيامهم بواجباتهم العلنية؟
وما العبرة من أن يكون كل الضباط في مجلس القيادة الأمنية والعسكرية بلباسهم الرسمي ما عدا مدير المخابرات أو قائد الشرطة القضائية أو رئيس فرع المعلومات وغيرهم؟
هل يكونون في مهمة تتطلّب تخفياً حتى خلال اجتماعاتهم الرسمية؟ وهل يكون عنصر المخابرات أو المعلومات أو الاستقصاء في مهمة سرية خلال ارتدائه سترة تحدد وظيفته؟
الدولة تكون فعلاً دولة عندما تحترم المواطنين لا عندما تلعب أدواراً بوليسية وتنتحل صفات أمنية وترعب الناس وتحدث زحمة سير خانقة. وهي تصبح فعلاً دولة عندما تتخلّص من زعرانها أو تقيدهم وتلزمهم بخدمة المواطنين وليس التنمّر والتشبيح عليهم.