هل هناك فعلاً مشروع لإصلاح المؤسّسات الأمنية؟

لا شك في أن استعجال تعيين قائد الجيش ورؤساء لبقية المؤسسات الأمنية ضروري في ظل الوضع الأمني الدقيق الذي يمر به لبنان والمنطقة. لكن، كالعادة، فإن معايير اختيار هؤلاء لا تقتصر على كفاءتهم المهنية ونزاهتهم، بل تشمل أيضاً اعتبارات سياسية وعلاقات خارجية وصفات شخصية.
وتتزامن التعيينات مع تغيير النظام في سوريا، ومع تصميم أميركي وأوروبي على الحفاظ على أمن «إسرائيل»، وفي ظل جهر المسؤولين الأميركيين الذين يقومون بجولات متتالية على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء برغبتهم في تحقيق «سلام دائم مع إسرائيل». وبالتالي، فإن ورشة تسمية المدراء العامين ستأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، وستتنبه إلى رغبات واشنطن وباريس والرياض، خصوصاً أن هذه العواصم كانت الداعم الأساسي لانتقال القاضي نواف سلام من محكمة لاهاي إلى السراي الحكومي.
ربما يجهل القاضي سلام اليوم، أو يتجاهل، أن ما تحتاج إليه المؤسسات الأمنية في الدولة ليس إقحامها في مزيد من التجاذبات الداخلية، السياسية والطائفية والمناطقية، وتجنيدها لتنفيذ رغبات واشنطن وباريس والرياض، بل ما تحتاج إليه هو إصلاح حقيقي وجذري ينطلق من معالجة أبرز التحديات والصعوبات التي تعاني منها.
فلنبدأ بمكانة تلك المؤسسات في المجتمع اللبناني وعلاقاتها باللبنانيين وثقة اللبنانيين بها وننتقل بعد ذلك إلى حاجاتها الأساسية ونعرض أخيراً سبل تطويرها لتتمكن من القيام بمهامها بحسب القانون والدستور.
ثقة الناس
تجهد المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لاستعادة ثقة المواطنين بالدولة من خلال تطوير برامج الشرطة المجتمعية، كما يعمل العديد من الضباط والرتباء والعناصر على تحسين العلاقات مع الناس من خلال التركيز على الخدمات والمعالجة الهادئة للمشكلات وتجنّب القمع البوليسي. كذلك تسعى المديرية العامة للأمن العام إلى تسهيل إصدار مستندات السفر والإقامة وغيرها، وتنظيم إجراءات التدقيق للمسافرين وللمقيمين الأجانب. فيما قامت المديرية العامة لأمن الدولة بورشة لتطوير أدائها في حماية الشخصيات والاستجابة للاستنابات القضائية.
لكن كل هذه الجهود التي بدأت في أصعب الظروف (وباء كورونا، انهيار قيمة العملة، انفجار المرفأ، النزوح السوري، والعدوان الإسرائيلي المتواصل) غير كافية لاستعادة ثقة الناس بالدولة، ليس بسبب أداء المؤسسات الأمنية بل بسبب فساد الطبقة السياسية الحاكمة. فاللبنانيون عموماً لا يثقون بالعسكر والبوليس، ليس بسبب بدلاتهم المرقّطة، بل بسبب هواتفهم، وهي الوسيلة الأولى التي يتدخل السياسي بواسطتها في عمل الضابطة العدلية لحماية مخالف أو تهريب مطلوب أو تسهيل تدخل سفارة في الشؤون الداخلية أو في ملف قضائي أو أمني. وبسبب النقص في أبسط الحاجات والاتكال على الدعم المالي من هؤلاء يرضخ «الوطن»، وتضيع الثقة في معظم الأحيان.
المطلوب اليوم تعيين مدراء عامين يساهمون في استعادة الثقة من خلال التقرّب من الناس والابتعاد عن الحسابات الفئوية والإملاءات الخارجية. والمطلوب منهم تكوين مفهوم واضح لهموم الناس ومخاوفهم على الأمن والسلامة. أما التعيين لتنفيذ أجندات خارجية كالتحضير للتطبيع مع «إسرائيل»، فينزع ما تبقّى من ثقة اللبنانيين الجامعة بالمؤسسات ويحوّلها إلى مجموعات فئوية ودكاكين للسفارات الأجنبية.
الحاجات الأساسية
كثيرة هي حاجات المؤسسات الأمنية والعسكرية في لبنان، وأُولاها تحديث القوانين. فقانون تنظيم قوى الأمن الداخلي بات قديماً (1990)، والأمن العام يعمل وفق مرسوم صدر في ستينيات القرن الماضي، أما أمن الدولة فيعمل وفق قانون الدفاع الوطني وقد يحتاج إلى قانون خاص به. ويفترض قانوناً أن يجتمع مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي بشكل دوري وبكامل أعضائه ويتخذ القرارات المناسبة ويجري المناقلات والتشكيلات من دون أي تدخل خارجي. ولا بد أن يعاد النظر في الصلاحيات الاستثنائية للمدير العام للأمن العام وإخضاعه لرقابة المجلس النيابي كما يحصل في الدول التي تحترم الرقابة البرلمانية على المؤسسات التنفيذية بما في ذلك المخابرات. كذلك يُفترض أن تخضع المصاريف السرّية المخصّصة للمدراء العامين في المؤسسات الأمنية ولقائد الجيش لتدقيق ديوان المحاسبة أو اللجان البرلمانية.
وتحتاج المؤسسات الأمنية إلى زيادة العديد وتطوير التدريب، وإلى تقديم الخدمات الطبية المجانية اللازمة لجميع العسكريين وعائلاتهم.
الحاجات المادية لقوى الأمن والأمن العام وأمن الدولة تُعد ولا تُحصى بدءاً بالمقرات والمكاتب والمخافر والثكنات والقواعد والمختبرات والنظارات والآليات والسلاح والعتاد واللباس. وفي هذا الإطار يفترض أن يتخذ المدراء العامون وضباط مجلس القيادة قرارات صعبة في المرحلة الحالية تؤدي إلى تنازلهم عن الآليات التي يستخدمونها عائلياً وشخصياً لصالح المخافر والمراكز العسكرية. كما يفترض التخلي عن نوادي الضباط والمسابح والمطاعم لصالح إصلاح الثكنات وبناء المخافر والمراكز الأمنية والعسكرية.
التطوير المهني والاحتراف
لا بد من مراجعة بعض الأساليب والمنهجيات الأمنية المتّبعة مثل عدم ارتداء اللباس العسكري الرسمي والاكتفاء بسترة يُكتب عليها «استقصاء» أو «مخابرات»، إذ هل الغاية من ذلك «التخفي» مثلاً، في وقت يستخدمون أجهزة اتصال لاسلكية يسهل اختراقها لمعرفة لحظة مرور مواكب الشخصيات وما يرافقها من «دعوسة» للمواطنين ورفع السلاح في وجوههم بحجة الحماية، علماً أن هذه «الحركات» لم تحل يوماً دون اغتيال رئيس أو وزير.
ويفترض أن يساهم المدراء العامون الجدد للمؤسسات الأمنية في تطوير الأداء المهني والتقني وتحديث المنهجيات في العمل الأمني. وكان فرع المعلومات في قوى الأمن ومديرية المخابرات في الجيش قد بدآ بذلك، لكن يفترض ألا يقتصر الأمر عليهما، وأن يشمل كل الوحدات والشعب والفروع. أما بشأن تنظيم المخبرين وكتب المعلومات فهناك حاجة إلى مراجعة بعض الممارسات وإلغاء كل بطاقات تسهيل المرور، كما لا بد من إعادة تنظيم رخص حمل السلاح.
المطلوب تعيين مدراء جدد للمؤسسات الأمنية يؤكدون عملياً أنها مؤسسات لكل اللبنانيين وينتسب إليها لبنانيون من كل الطوائف والمذاهب والمناطق. ولا يفترض أن تخدم هذه المؤسسات فئة منهم على حساب أخرى، كما لا يجوز أن تعمل وفقاً لمخططات خارجية أو لرغبات السفراء والمبعوثين الأجانب مهما بلغ حجم المساعدات، لأنها ليست دكاكين، بل أن تعمل وفق القانون والدستور وتخدم مصالح شعبها ودولتها فقط.