تصدّر اليمين المتطرف في فرنسا، والمتمثّل في «حزب التجمع الوطني» وحلفائه، بزعامة مارين لوبان، الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، محققاً نتائج تاريخية، بعدما حصد نحو 33% من الأصوات، علماً أنّه منذ تأسيسه عام 1972، لم يتجاوز عتبة الـ20% من الأصوات في هكذا انتخابات. كما كان لافتاً حلول حزب «الجبهة الشعبية الجديدة»، المكون من ائتلاف الأحزاب اليسارية، في المرتبة الثانية، بتحقيقه نحو 28% في المئة من الأصوات، ليحل معسكر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في المرتبة الثالثة، بنسبة 22% فقط. ورغم أنّ هزيمة معسكر ماكرون الوسطي جاءت أقل «حدة» ممّا كان متوقعاً، إلا أنّها شكلت صفعة قاسية للأخير، بعدما بدا أنّ قراره حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، في أعقاب الضربة القاسية التي تلقاها ائتلافه الرئاسي في الانتخابات الأوروبية، قد جاء بنتائج عكسية، وجعل اليمين المتطرف أكثر قرباً من الوصول إلى الحكومة لأول مرة في تاريخ البلاد. ومقارنة بالانتخابات السابقة في عام 2022، «تضاعف» عدد الأصوات التي نالها حزب لوبان، فيما كان أداء المعسكر اليساري، الذي تكوّن «على عجل»، بحسب صحيفة «لوموند» الفرنسية، أفضل من أداء تحالف «الاتحاد الشعبي الجديد» الشبيه في الانتخابات السابقة، مستفيداً على الأرجح من التعبئة القوية ضد اليمين المتطرف في الشارع الفرنسي من جهة، «وانهيار» الائتلاف الرئاسي من جهة أخرى، طبقاً للصحيفة. ومقارنة بالانتخابات الماضية أيضاً، وفي خضمّ استحقاق وصفه مراقبون بأنّه «الأكثر استقطاباً» في تاريخ البلاد الحديث، شهدت نسبة المشاركة في الانتخابات قبولاً أوسع، إذ أدلى 65% من الناخبين بأصواتهم، مقارنة بـ47.5% في عام 2022.
كان لفوز ائتلاف لوبان أصداء إيجابية في أوساط الأحزاب اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء أوروبا


وفور صدور النتائج الأولية، قال مرشح «حزب التجمع الوطني» لرئاسة الحكومة، غوردان بارديلا، إنّه يريد أن يكون «رئيس وزراء جميع الفرنسيين»، معتبراً أن «الشعب الفرنسي أصدر حكماً واضحاً»، وواصفاً الانتخابات الأخيرة بأنّها «الأكثر أهمية منذ 60 عاماً». كما اعتبر بارديلا أنّ المنافسة باتت حالياً محصورة بين طرفين، أي التحالف اليساري الذي يمثل، على حدّ تعبيره، «خطراً وجودياً»، و«التجمع الوطني» والأحزاب الحليفة له. أمّا لوبان، فرأت أنه «تمّ، عملياً، محو معسكر ماكرون»، مشيرةً إلى أنّ «الفرنسيين عبروا عن رغبتهم في طي صفحة سبعة أعوام من الحكم الضعيف للرئيس ماكرون». وفي المقابل، دعا ماكرون، الأحد، إلى تشكيل «تحالف ديموقراطي وجمهوري واسع» في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية، لمواجهة «التجمع الوطني». ورغم أنّها لم تصب في مصلحته، فقد لفت ماكرون إلى أنّ «المشاركة الكبيرة في الدورة الأولى تظهر أهمية هذا التصويت بالنسبة إلى جميع مواطنينا، وإرادة تصحيح الوضع السياسي». بدوره، حضّ رئيس الوزراء الفرنسي الحالي، غابرييل أتال، على عدم التصويت مطلقاً لليمين المتطرف في الجولة الثانية.
كما أثارت النتائج الأخيرة ردود فعل واسعة على الصعيد الشعبي، إذ أفادت وسائل إعلام فرنسية بخروج آلاف المواطنين إلى الشوارع للتظاهر ضد صعود اليمين المتطرف، واحتشادهم في باريس خصوصاً، حيث شهدت ساحة الجمهورية تجمعاً حاشداً، بدعوة من التحالف اليساري الجديد، شارك فيه سياسيون يساريون بارزون. وانسحب الأمر نفسه على عدد من المدن الفرنسية الأخرى، التي اشتبك المتظاهرون فيها، في بعض الأحيان، مع قوات الشرطة، ولا سيما في ليون، ثالثة أكبر مدن البلاد.
وعلى أي حال لا يمكن، بحسب عدد من المحللين، حسم شكل الحكومة القادمة قبل الجولة الثانية التي ستحصل في السابع من هذا الشهر، إذ يمكن للأحزاب المشاركة أن تسحب مرشحيها وتدعم المرشحين الذين يتمتعون بالحظوظ الأفضل للتغلب على اليمين المتطرف، بغض النظر عن انتمائهم. وهذه الإستراتيجية، التي تسمى بـ«الجبهة الجمهورية»، كانت قد غابت عن الساحة الفرنسية في السنوات الأخيرة، إلا أنّها يمكن أن تعود إلى الواجهة في الجولة الثانية. وفي هذا الإطار، رفض «حزب الجمهوريين» أن يدعو ناخبيه إلى التصويت ضد «التجمع الوطني» في الدورة القادمة، وأكدت قيادته، في بيان، أنّه «وإذ لن نكون موجودين في الدورة الثانية، وبالنظر إلى أن الناخبين أحرار في خيارهم، لن نصدر أي تعليمات وطنية، وسنترك الفرنسيين يستندون إلى ضمائرهم»، فيما اعتبر النائب الأوروبي عن «الجمهوريين»، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن «الخطر الذي يهدد بلادنا اليوم هو اليسار المتطرف». وعلى الجهة المقابلة، أعلن المدافعون عن البيئة والاشتراكيون والشيوعيون أنهم سينسحبون إذا كان ثمة مرشح آخر في موقع أفضل للحؤول دون فوز حزب لوبان.

السياسة الخارجية
وفي الوقت الراهن، تتركز الأنظار على تبعات نتائج الانتخابات القادمة على السياسة الخارجية للبلاد، ولا سيما في ما يتعلق بالحرب الدائرة في غزة. إذ أعلن حزب «الجبهة الشعبية الجديدة»، في غير محطة، أنّ خطته الحكومية تشمل «الاعتراف الفوري بدولة فلسطين» لحظة توليه السلطة، فيما شهد حزب لوبان «انعطافاً جذرياً» نحو دعم إسرائيل، مقارنة بالسنوات الأولى لتأسيسه، أي عندما كان معروفاً بانتقاداته العلنية لإسرائيل واعتداءاتها على الفلسطينيين. كما كانت مارين لوبان تجادل، في الآونة الأخيرة، بأن حزبها يؤيد إنشاء دولة يهودية طوال تاريخه، واصفة إياه حتى بأنه «حزب صهيوني قديم». وفي تشرين الثاني الماضي، وبعد أسابيع من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، انضمت لوبان وبارديلا إلى الاحتجاجات المؤيدة لإسرائيل، رغم الانتقادات الواسعة لدولة الاحتلال، فيما أكد الأخير، في 24 حزيران، وهو يطرح خطة حزبه للحكومة، أنّ «الاعتراف بفلسطين في الوقت الراهن هو بمنزلة اعتراف بالإرهاب». أيضاً، نشرت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير جاء فيها أنّه رغم أنّ «بعض اليهود الفرنسيين يمقتون اليمين المتطرف»، والذي «أنكر مؤسسه المحرقة اليهودية»، إلا أنّهم سيصوتون على الأرجح لمصلحته، بهدف إبعاد ما يعتبرونه «الشر الأكبر الذي يمثله اليسار المتطرف المعادي للسامية ولإسرائيل». أما ماكرون، فلا يزال يتبنى موقفاً «وسطياً» إزاء الإبادة المرتكبة في غزة، ويعتبر أنّ إقامة دولة فلسطينية «ليس من المحرمات»، إلا أنّها يجب أن تحصل «في الوقت المناسب».

«اليمين الأوروبي» يحتفي
وكان لفوز ائتلاف لوبان أصداء إيجابية في أوساط الأحزاب اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء أوروبا؛ إذ سارع زعماء تلك الأحزاب إلى إرسال تهنئاتهم لها. ومن بين هؤلاء، رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو سالفيني، رئيس «حزب الرابطة الإيطالية» (لا ليغا)، الذي هنأ لوبان وبارديلا، وندد، في منشور عبر «أكس»، بدعوة ماكرون إلى تشكيل «تحالف أوسع» لمواجهة حزبهما. وعلى الضفة نفسها، وصف زعيم حزب «فوكس» الإسباني اليميني المتطرف، سانتياغو أباسكال، عبر المنصة عينها، فوز «التجمع الوطني» بـ«الانتصار للأمل والحرية والأمن للشعب الفرنسي»، فيما اعتبر أندريه فينتورا، رئيس «حزب تشيغا» البرتغالي أنّ «أوروبا تستيقظ»، وأنّ بلاده ستكون التالية.