بعد تكهّنات وتكهّنات مضادّة في شأن مدى استعداد كلّ من الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، وسلفه دونالد ترامب، لخوض مناظرات علنية، يستعدّ الرجلان لأول مناظرة انتخابية بينهما منذ انتخابات عام 2020، في ضوء رغبتهما في إظهار نفسيهما في عيون الجمهور، كحريصَيْن على "قواعد الديموقراطية والشفافية". وتأتي المناظرة المرتقبة، بعد انشغال حملة المرشّح الجمهوري بوقائع محاكمته في "قضية ستورمز" من جهة، ووسط تقدُّم بايدن للمرّة الأولى على ترامب في استطلاعات الرأي لهذا العام، بنتيجة 50% مقابل 48%، وارتباك الإدارة الديموقراطية في التعامل مع الحراك الطالبي من جهة ثانية.والمناظرة المقرّر أن تستضيفها استديوات شبكة "سي إن إن" في مدينة أتلانتا، على مدى 90 دقيقة، والتي ستعقبها مناظرة ثانية في العاشر من أيلول المقبل، ستجرى ضمن شروط مختلفة، من بينها عدم وجود جمهور، كشكل من أشكال تفادي الفوضى التي وقعت خلال مناظرات الرجلَين في الانتخابات الماضية، إضافة إلى عدم إمكانية استعانة المرشحين بأيّ شكل من أشكال المساعدة، وخاصة من جانب أعضاء الحملة الانتخابية لكلّ منهما، فيما سيتمّ فتح مكبّرات الصوت فقط للمرشّح المتحدث، في مقابل كتمها لدى المرشح المنافس إلى أن يحين دوره، وذلك تلافياً لوقوع تراشق كلامي خلال المناظرة. وسيتناول الرجلان مواضيع شتى تهمّ الرأي العام الأميركي، من جملتها الاقتصاد، والهجرة، والإجهاض، وقضايا السياسة الخارجية، وعلى رأسها الوضع في غزة. وإذا كانت المناظرة في حدّ ذاتها تعكس تقاطعاً ديموقراطياً - جمهورياً على أولوية حصر السباق الرئاسي بين مرشحيهما، إلا أنها تحمل تحديات مختلفة لكل منهما، بالنظر إلى سجلّ بايدن الذي يعجّ بزلات اللسان "السياسية"، إضافة إلى الطابع الانفعالي المبالغ فيه الذي تتّسم به تصرفات ترامب وتصريحاته.

مفارقات
ستحمل المناظرة، التي يعوّل عليها كلا الحزبين كمحطّة حاسمة لكسر حالة "المراوحة" في المشهد السياسي الأميركي، مفارقات بالجملة. أولاها، وفق محلّلين، وجود نوع من "التواطؤ المخالف للقيم الديموقراطية الأميركية" بين الجهات الإعلامية المنظّمة للمناظرة، والحزبين الرئيسيّين في البلاد؛ إذ إن "الشروط التعجيزية" الموضوعة من قِبَل "سي إن إن" للمشاركة في ذلك النوع من المناظرات، من مثل حصول المرشح على أكثر من 15% في 4 استطلاعات رأي وطنية، وأن يكون مؤهلاً في عدد من الولايات بما يكفي لحصوله على 270 مندوباً، إنّما تتجاوز الشروط الدستورية المفترض توافرها في المرشحين الرئاسيين (والمتوفرة لدى المرشحين المستقلّين، من ضمنهم روبرت كينيدي وآخرون)، والموضوعة من قِبَل "لجنة الانتخابات الأميركية".
ومن المفارقات البارزة في مناظرة اليوم خصوصاً، فضلاً عن حظر وجود أيّ شعارات انتخابية على خشبة مسرحها، أو لخطابات افتتاحية للمرشحَيْن في خلالها، هي أنها تأتي في وقت مبكر من مواعيد المناظرات الرئاسية الاعتيادية، وتحديداً قبل أسابيع من انعقاد "المؤتمر الوطني" الذي ينظّمه الحزب الجمهوري في منتصف تموز المقبل، لحسم هوية مرشحه. كما أن تجاوز "سي إن إن"، ومعها كل من بايدن وترامب، الدور التقليدي لـ"لجنة المناظرات الرئاسية" في هذا الخصوص، منذ عام 1988، والتي أدرجت ثلاثة مواعيد لهذا الغرض بين شهرَي أيلول وتشرين الأول المقبلَين، يشكّل إحدى العلامات الفارقة في المشهد الأميركي الانتخابي للعام الحالي.
الهاجس الأكبر لدى كل من ترامب وبايدن هو في جعل المناظرة "تتمحور حول أداء (وأخطاء) الشخص الآخر"


"الجبهة الديموقراطية": رهانات بايدن على أخطاء ترامب
واستعداداً لخوض المناظرة المنتظرة، انتهج كل من بايدن وترامب استراتيجيات مختلفة. فمن جهته، دأب الأول على عقد سلسلة اجتماعات مع كبار مستشاريه وأعضاء حملته الانتخابية في منتجع كامب ديفيد في ولاية ميريلاند، ومن أبرزهم مستشاره والرئيس السابق لموظفي البيت الأبيض رون كلاين، حيث أجرى مناظرات "تجريبية" حول المواضيع المتوقّع طرحها. وفي إطار ما وصفه مراقبون بـ"الصلية الصاروخية الافتتاحية" ضدّ ترامب، كثّف الفريق الانتخابي التابع لبايدن من حدّة هجماته المباشرة غير المسبوقة ضدّ المرشح الجمهوري، منذ مطلع الشهر الجاري، عبر تدشين حملة إعلامية ضده بقيمة 50 مليون دولار، وتحديداً لدى ناخبي الولايات المتأرجحة، وذلك على أمل "الاستثمار السياسي" في الإدانة القضائية لترامب في نحو 34 تهمة جنائية. ويُصوّر الإعلان، الذي يظهر فيه مدير الاتصالات السياسية في حملة بايدن، مايكل تايلور، وتشرف عليه "اللجنة الوطنية للحزب الديموقراطي"، انتخابات 2024 على أنّها منافسة محصورة بين "مجرم مدان بتهم جنسية ومالية، لا يولي اهتماماً إلا بمصالحه الشخصية"، وبين "رئيس يقاتل من أجل القيم العائلية، ويعمل على خفض تكاليف الرعاية الصحية، وفرض ضريبة عادلة على الشركات"، وهو إعلان يُضاف إلى آخر مشابه في شأن قضية الإجهاض، التي تشكّل أحد أعمدة الخطاب السياسي لحملة بايدن، وإحدى الأوراق التي يعوّل عليها الديموقراطيون لهزيمة الجمهوريين. وإذا كان عقد المناظرة يشكّل فرصة لبايدن لإبراز "أهليته للرئاسة" على رغم كبر سنّه، لا يبدو النصر على ترامب مهمّة سهلة، لاعتبارات عدّة تتّصل بالانشقاقات التي باتت تثيرها سياسة الرئيس الحالي تجاه حرب غزة داخل حزبه، وبانحدار شعبيته في استطلاعات الرأي داخل عدد من أبرز الولايات المتأرجحة.
وفي هذا الإطار، يرى الخبير في شؤون التخطيط والاستراتيجية، نيل أوكسمان، أن الرئيس معنيّ بـ"تغيير الدينامية"، بعد إخفاق حملته الانتخابية في إحداث تغيير واسع في اتجاهات الناخبين، على رغم إنفاقها عشرات الملايين من الدولارات على الإعلانات المتعلقة بملفات اقتصادية وبيئية مختلفة. ويلمّح أوكسمان إلى أن البديل لمعالجة ذلك الإخفاق يكمن في أن "يخوض بايدن غمار الصعود إلى مسرح (المناظرة) في وجه ترامب، وأن يأمل بأن يقوم الأخير بتصرفات مجنونة". من جهته، يعتقد دوغ هيرمان، وهو أحد أبرز خبراء استراتيجيات الاتصال في حملتَي الرئيس السابق باراك أوباما لعامَي 2008 و2012، أن الهاجس الأكبر لدى كل من ترامب وبايدن هو في جعل المناظرة "تتمحور حول أداء (وأخطاء) الشخص الآخر".

"الجبهة الجمهورية": "التضخم أولاً"!
على مقلب الجمهوريين، قام الرئيس الأميركي السابق، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعقد سلسلة لقاءات حول قضايا عدة، وفي مقدّمها الهجرة، والاقتصاد، وهما ملفّان يشكّلان عماد الخطاب السياسي للحملة الرئاسية الجمهورية. وأجرى ترامب لقاءات مع خبراء استراتيجيين ومسؤولين سابقين، من ضمنهم توم هومان، الذي شغل منصب القائم بأعمال مدير إدارة الهجرة والجمارك خلال عهده، والمستشارة الرئاسية السابقة كيليان كونواي، والقائم بأعمال مدير الاستخبارات الوطنية في عهده ريك غرينيل، إلى جانب عدد من أعضاء مجلس شيوخ الجمهوريين، من أبرزهم: السيناتور عن ولاية أوهايو جي. دي. فانس، والسيناتور عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو، علماً أنّ كليهما مرشح لمنصب نائب الرئيس.
ومع ذلك، بدا المرشّح الجمهوري كمن يحاول البقاء على تماسٍّ مباشر مع جمهوره قبل موعد المناظرة، لتسجيل نقاط في وجه خصمه، على غرار مشاركته في تجمّع انتخابي في فيلادلفيا، السبت الماضي. وخلال كلمة له أمام التجمّع، انتقد ترامب بقاء بايدن في منتجع كامب ديفيد لمدة تجاوزت الخمسة أيام، للالتقاء بمساعديه في إطار استعداده للمناظرة، واصفاً إيّاه بـ"جو النائم". وفي موازاة التصويب على سياسات خلفه، في مجالات الهجرة والاقتصاد، لم يوفّر ترامب "سي إن إن" من هجماته، إذ أعرب عن امتعاضه من فكرة عدم وجود جمهور خلال المناظرة، متّهماً الشبكة ببثّ أخبار كاذبة. كما اعتبر أنّ منظّمي المناظرة، جاك تابر ودانا باش، "يكنّان الكراهية له".
وفي هذا السياق، كشف جيسون ميلر، وهو مستشار للرئيس السابق، وأحد كبار أعضاء حملته الانتخابية في عامَي 2016 و2020، أن الأخير "يجري العديد من المقابلات الصعبة كل أسبوع ويلقي خطابات حاشدة طويلة وقوفاً"، معتبراً أن الأمر يحمل دلالة على "قدرة عالية لديه على التحمّل". ورأى ميلر أن ترامب "ليس في حاجة إلى أن تتمّ برمجته، أو إعداده بشكل مسبق من قِبَل الموظفين، أو أن يتم حقنه بأمصال كيميائية، كما هي الحال مع بايدن". من جهته، أشار بريت أودونيل، وهو أحد المدرّبين على المناظرات، إلى وجود "خطر" محدق بترامب، يتعلّق بطريقة أدائه العلني، داعياً الرئيس السابق إلى تلافي الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها في إحدى المناظرات الرئاسية خلال انتخابات 2020، حين خرج عن حدود التعاطي اللائق في حديثه إلى منافسه، والمُحاوِر. وتابع الجمهوري المخصرم بالقول: "لو كنت في عداد الجهات المولجة إعداد ترامب للمناظرة، لطلبت إليه أن يحافظ على هدوئه، وأن يدع بايدن يرتكب تلك الأخطاء، وأن يبادر إلى إحراجه عبر توجيه أسئلة تتعلّق بأزمة التضخّم".