كادت الحياة السياسية في تركيا تستكين لنتائج انتخابات الـ14 والـ28 من أيار 2023 الرئاسية والنيابية، عندما حقَّق «تحالف الجمهور»، بقيادة رجب طيب إردوغان، نجاحاً بارزاً ضَمِن له الاستمرار في الرئاسة والسيطرة على البرلمان لخمس سنوات مقبلة. وعلى هذه الخلفية، بدأت الأحزاب المعارِضة ورش عمل لتحديد أسباب الهزيمة، وعلى رأسها «حزب الشعب الجمهوري» العلماني، والذي عقد مؤتمراً استثنائيّاً في الخريف الماضي، انتهى إلى فوز أوزغور أوزيل برئاسته، ليحلّ محلّ كمال كيليتشدار أوغلو.وبعد الهزيمة الكبيرة لـ«الحزب الجيّد» في الانتخابات البلدية، في نهاية آذار الماضي، دعت زعيمته مرال آقشينير إلى مؤتمر عام للحزب الذي قرّرت التنحّي عن رئاسته، ليحلّ محلّها، في الـ27 من نيسان، مساوات درويش أوغلو. وفي الوقت نفسه، أعلن رئيس «حزب السعادة» الإسلامي، تيميل قره موللا أوغلو، أنه سيتخلّى عن رئاسة حزبه بسبب تقدُّمه في السن. على أن نقطة الصراع السياسي الأخيرة بين السلطة و«المعارضات» كانت في 31 آذار الماضي، تاريخ إجراء الانتخابات البلدية، والتي شكّلت فرصة ليحاول «حزب العدالة والتنمية» استعادة بلديتَين اثنتَين في غاية الأهمية بالنسبة إليه وإلى إردوغان شخصيّاً، هما: إسطنبول وأنقرة. غير أن النتائج لم تسفر فقط عن فشل الرئيس التركي في هذا المسعى، بل أيضاً عن خسارته مدناً كبرى أخرى، مثل بورصة. ولعلّ الأكثر دلالة ممّا تقدَّم، هو خسارة «العدالة والتنمية» المركز الأول على مستوى تركيا، بحصوله على نحو 35% من الأصوات، في مقابل 37% حازها «الشعب الجمهوري».
وهذه المرّة، كانت ارتدادات النتائج على «العدالة والتنمية»؛ إذ تداعى أركانه، بدفعٍ من إردوغان، لتحليل أسباب الهزيمة، فيما أطلق رئيس الجمهورية نداءً للمحاسبة أثار نقاشات ومناكفات داخل الحزب نفسه. غير أن تكتيكات الزعيم التركي جاءت في اتّجاه مفاجئ، تمثّل في إعلان استعداده للحوار الداخلي، ليلبّي دعوته مباشرةً، زعيم «الشعب الجمهوري»، أوزيل، فيما عارضها الرئيس السابق للحزب، كيليتشدار أوغلو، حين قال إن «مواجهة إردوغان تكون في الميدان، لا بالحوار معه». وإذ شكّك كثيرون في جدوى الحوار، عادّين إياه كميناً آخر ينصبه إردوغان للمعارضة ولـ«الشعب الجمهوري» خصوصاً لكبح شدّ عصب أحزابها، إلا أن أوزيل ظلّ عند موقفه بضرورة استمرار الحوار، والذي سيحمله اليوم إلى عقد جولة جديدة من المحادثات مع إردوغان، بعد أولى عُقدت في مقرّ «العدالة والتنمية» في أنقرة (2 أيار).
يدعم أوزيل دستوراً يعزّز الحريات، على أن لا يكون أداة لتشريع السماح لإردوغان بالترشّح مجدّداً


وازدادت الشكوك حول نوايا إردوغان، عندما بادرت الحكومة التركية إلى إقالة واعتقال محمد صديق آقيش، رئيس بلدية حقاري المنتخب حديثاً، بتهمة «دعم الإرهاب»، وتعيين المحافظ علي تشيليك بدلاً منه. كما ثمّة خطوة أخرى خطاها الرئيس التركي لإحداث شقاق داخل المعارضة، عندما دعا آقشينير إلى اجتماع معه في القصر الجمهوري، في ما فُسّر على أنه محاولة لضرب الصف الداخلي لـ«الحزب الجيّد» بعد تخلّي زعيمة الأخير عن رئاسته. وإذ يأمل إردوغان في أن يستميل ناخبي «الجيّد»، فهو يَعتبر أيضاً أن القاعدة القومية للحزب يُفترض أن تقدّم له الدعم كونه يمارس سياسة قومية صافية، ولا سيما ضدّ الأكراد في الداخل التركي وفي شمال سوريا والعراق، علماً أن قاعدة «الجيّد» كانت في الأساس جزءاً من قاعدة «حزب الحركة القومية» (الحليف الحالي لإردوغان)، قبل أن تنفصل الزعيمة عن الأخير وتشكّل حزبها في عام 2017. وأثارت زيارة آقشينير إلى إردوغان بلبلة داخل «الجيّد»، إذ قال مسؤولوه إنها جرت بصفتها الشخصية لا الحزبية، فيما ذكّر رئيس الحزب، درويش أوغلو، بأنه هو المخاطَب في كلّ ما يخص «الجيّد» وليس أحداً آخر. ولمّح أيضاً إلى أن اللقاء محاولة لضرب حزبه، قائلاً: «لن أسمح لأيّ خطوات تضرب الحزب لا اليوم ولا غداً». ووفقاً لقوراي آيدين، أحد القيادات البارزة في «الجيّد»، فإن لقاء إردوغان - آقشينير قد تكون له انعكاسات خطيرة على وحدة الحزب، ذلك أن «قاعدة الحزب التي تعارض سياسات إردوغان غير الديموقراطية والريعية والتفقيرية، لا توافق على هذه الزيارة».
وهكذا، طرحت اجتماعات إردوغان السياسية مع بعض قادة المعارضة ورموزها، تساؤلات حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه، فضلاً عن انعكاسها على الساحة السياسية. وفيما يصف الرئيس التركي اللقاء بأنه جزء من مرحلة «تليين» التشنجات الداخلية، لا يعارض أوزيل ذلك، بل إن الأخير يدعم دستوراً جديداً يعزّز الحريات، على أن لا يكون أداة لتشريع السماح لإردوغان بالترشّح مجدّداً لولاية رابعة. ويراهن زعيم «الشعب الجمهوري»، في لقاءاته مع إردوغان، على الثقة التي يشعر بها بعد تقدُّم حزبه في الانتخابات البلدية. وأكثر ممّا تقدّم، كان قادة المعارضة والسلطة يعارضون، قبل مدة، إجراء انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة، فيما عكست استطلاعات الرأي أيضاً رفض الغالبية الساحقة لها (70%). إلا أن حديث أوزيل، أخيراً، عن أن حزبه سيكون جاهزاً لانتخابات مبكرة، أعاد تحريك قضايا لم تكن مطروحة، رغم أن الحديث عن انتخابات مبكرة لا يزال سابقاً لأوانه، بالنظر إلى أن آخر انتخابات حصلت قبل سنة واحدة وليس في مصلحة إردوغان وحليفه إجراء أخرى. وكان أوزيل قال، في الرابع من حزيران، إن حزبه لن يطالب بانتخابات مبكرة، و«لكن إذا سارت الأمور على سوء، فقد لا يكون هناك حل آخر».