بعد شدّ وجذب ومحاولات اللحظة الأخيرة التي قام بها الرئيس السنغالي المنتهية ولايته، ماكي صال، لتفادي عقد الانتخابات الرئاسية في موعدها (شباط الماضي)، نجح السنغاليون في فرض إرادتهم، وإجبار صال على التراجع عن الخطوات غير الدستورية التي باتت سمة سياسات القارة الأفريقية. وجرت الانتخابات يوم الـ24 من الجاري، وفاز فيها، وفقاً للنتائج الأولية، مرشّح المعارضة الشاب بصيرو ديوماي فاي (44 عاماً)، أو «عدو المؤسّسة»، كما تصفه وسائل الإعلام، ومنها «لوموند» الفرنسية (26 آذار) في بورتريه عنه بعنوان «عدو النظام». وحصل الرئيس المنتخب على 56% من الأصوات، متقدّماً على منافسه من الحزب الحاكم، أمادو با (62 عاماً)، في ما شكّل مفاجأة من العيار الثقيل، ولا سيما أنه أوّل مرشّح للمعارضة يفوز - ومن الجولة الأولى - في انتخابات الرئاسة في السنغال، منذ استقلالها عام 1960، فضلاً عن كونه الرئيس السنغالي، والأفريقي، الأصغر سنّاً الذي يتولّى المنصب الرفيع.
إعادة ترتيب البيت السنغالي
يبدو أن المجتمع السنغالي - وهو مجتمع شاب يبلغ متوسّط العمر فيه 22 عاماً ويتّسم بذيوع النزعة الصوفية بشكل عام بين سكانه البالغ عددهم 18 مليون نسمة، والارتباط الثقافي المتجذّر بفرنسا -، على وشك أن يشهد تغييرات سياسية مهمّة مع بدء فاي ولايته، علماً أنه يمكن لحظ أن التصويت المباغت نسبيّاً لمصلحة الأخير مهّد له، إلى جانب إعلان زعيم المعارضة المسجون عثمان سونكو دعمه لفاي على نحو كامل، سخْط الشباب على نظام صال، وذلك بسبب ارتفاع نسب البطالة في عهده، والفشل الواضح في الوفاء بوعوده، فضلاً عن إطلاقه في الأشهر الأخيرة سلسلة اعتقالات سياسية طالت حوالى 1000 شخص. وفيما رأى سنغاليون انتخاب مرشّح المعارضة تجسيداً لرسوخ ديموقراطية بلادهم، فإن مراقبين دوليين ركزوا اهتمامهم على سياسة فاي الخارجية وخياراته في هذا الإطار، كما على طبيعة توجّهاته التي كشف عن بعضها، من قَبيل تعهّده بالعمل على إصلاح «الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إكواس)، والتي واجهت انتقادات كثيرة بسبب مقاربتها للانقلابات المتكرّرة في عدد من دولها، في إشارة ربّما إلى إبداء فاي تفهّماً أكبر لطبيعة التغييرات السياسية في تلك الدول، ومساعي قادتها للتحرّر من الهيمنة الفرنسية والغربية.
كذلك، عزّزت رؤى فاي احتمالات التوجّه إلى فك الارتباط عن الغرب، بعدما رفع شعار «الانقطاع عن الماضي وتبنّي خيار المصالحة الوطنية» كأساسَين مهمَّين في صياغته سياساته، إذ طرح، خلال حملته الانتخابية وفي خطابه الأول للشعب السنغالي، تصوّراته لإصلاح النظام السياسي في السنغال، عبر إجراءات عاجلة من مِثل إلغاء منصب رئيس الوزراء. وهكذا، يُتوقّع أن تطال سياسات فاي«الراديكالية»، المعززة بدعم شعبي كبير وواضح يتّسق مع المتغيرات الجارية في غرب أفريقيا، مجمل الأوضاع في البلد الأفريقي.
يمثّل قطاع الغاز والبترول المرتقب انتعاشه، قاطرة أيّ خطط تنموية في السنغال


الملف الاقتصادي
تعهّد فاي، الذي عمل موظّفاً في إدارة الضرائب وأُفرج عنه من السجن قبل أقلّ من أسبوعين من إطلاق السباق الانتخابي، بمواجهة الفساد واستغلال موارد البلاد من أجل تحسين أحوال الشعب السنغالي المعيشية والعمل على تقوية مؤسّسات الدولة. كما بدأ باكراً، النبش في واحد من أعقد ملفات السنغال الاقتصادية، إذ وعد بتبنّي أفكار «أفريقانية يسارية pan-Africanism» في البلاد (التي عُرفت بكونها واحدة من أهمّ نقاط ارتكاز سياسات الاستيعاب الاستعمارية الفرنسية في العالم، وظلّت طوال استعمارها، منذ النصف الثاني من القرن الـ17، جزءاً لا يتجزّأ من الجمهورية الفرنسية)، وإعادة التفاوض حول عقود الغاز والبترول (أبرزها مشروع طوّرته «بريتش بتروليوم» بقيمة 4.7 مليارات دولار، وآخر لـ«وودسايد إنيرجي»، بحسب تقرير لـ«بلومبرغ») المقرّر البدء بإنتاجهما نهاية العام الجاري، وعلى نحو يضمن عدالة توزيع العائدات على جميع المواطنين. أيضاً، تعهّد فاي بتعزيز سيطرة السنغال على مواردها الطبيعية بشكل عام عبر دعم الشركات الوطنية من أجل منع تهاوي البلاد في «الاسترقاق الاقتصادي»، وذلك في ظلّ توقّعات بجنوحه نحو خيارات اقتصادية وسياسية من قَبيل تعزيز طلب انضمام بلاده إلى مجموعة «بريكس» (طرحه صال بالفعل ولم يحظَ بعد بالقبول) في سياق تقارب أكبر مع الصين وروسيا.

فرنسا والسنغال ما بعد فوز فاي: ترقّب وانتظار
باتت الضربات المتلاحقة التي توجَّه ضدّ الحضور الفرنسي في غرب أفريقيا وإقليم الساحل، دامغة، مع تجاوُز هذا الحضور بمراحل ذروته السابقة في نهاية خمسينيات القرن الماضي. وقد حظي فوز فاي بتغطية مكثّفة من الميديا الفرنسية التي طَرحت بدورها تساؤلات حول مستقبل العلاقات بين باريس وداكار، في ضوء هذا «المتغيّر الراديكالي» الواضح، بعدما استهلّ الرئيس المنتخب حملته الانتخابية بتعهدات من قَبيل «إعادة النظر في إرث العلاقة مع فرنسا» على وجه الخصوص.
على أيّ حال، بادر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تهنئة فاي بفوزه بالرئاسة، معرباً عن تطلّعه إلى العمل معه. وتجدر الإشارة إلى أن أيّ خطط لفاي لتقليص النفوذ الفرنسي الكبير في بلاده، يقابلها واقع أن فرنسا تُعدّ، منذ عقود، الشريك السياسي والاقتصادي الأول للسنغال، سواء عبر نخب سياسية فرنسية الهوى أو ارتباطات مصالح اقتصادية ممتدة منذ الاستعمار، وذلك بالنظر إلى طبيعة الاقتصاد الزراعي السنغالي كمورد لمحاصيل أساسية إلى السوق الفرنسية، وأبرزها الفول السوداني. إذ لا يتجاوز الناتج المحلي للسنغال حاجز 28 مليار دولار وفقاً لتقديرات 2023، فيما بلغت صادرات السنغال لفرنسا أقلّ من 100 مليون دولار في العام الماضي، في مقابل واردات تجاوزت 1.1 مليار دولار.
وهكذا، يمثّل قطاع الغاز والبترول المرتقب انتعاشه، قاطرة أيّ خطط تنموية في السنغال من جهة، ومجالاً مهمّاً لجذب الاستثمارات الفرنسية راهناً ومستقبلاً من جهة أخرى. وربّما يسعى عملاق الطاقة الفرنسي «توتال إنيرجيز»، العاملة في السنغال منذ عام 1947 وتحتلّ المرتبة الأولى في توزيع المنتجات البترولية في البلاد منذ ذلك الوقت، إلى ضخّ استثمارات إضافية في مجالات الاستكشاف والإنتاج قبالة سواحل السنغال، ما سيعمّق الصلات الفرنسية - السنغالية ويُحدث توازناً في الميزان التجاري بين البلدين.

خلاصة
يرجَّح أن يفتح فوز الزعيم السنغالي الشاب فصلاً جديداً في تاريخ البلاد، في ضوء تعهّداته بانتهاج سياسات جديدة تنزع إلى الراديكالية «الأفريقانية» في بلد شكّل مهد أفكار الاستيعاب الثقافي الفرنسي، وتيار الزنوجة، والاشتراكية الأفريقية، وغيرها من الأيديولوجيات التي نمت في كنف الثقافة الفرانكفونية طوال عقود، قبل عهد أول رئيس للسنغال المستقلّ: ليوبولد سنغور. وستبرهن الأيام المقبلة على مدى جدّية أطروحات بصيرو فاي والدعم الشعبي الذي ستحظى به، وكذلك مدى واقعية الخيارات السياسية الداخلية والخارجية أمام داكار في الأشهر المقبلة.