تواصلت تداعيات مذكّرة التفاهم التي وقّعتها إثيوبيا مع إقليم أرض الصومال في جمهورية الصومال الفدرالية المجاورة - والتي تمنح الأولى حقوق استئجار قطاع ساحلي بطول 20 كلم في الإقليم ولمدّة 50 عاماً -. وتجلّى ذلك في إدخال تعديلات وزارية مهمّة على حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، وتوقيع مقديشو (8 شباط) اتفاقاً إطارياً للتعاون الدفاعي والاقتصادي مع أنقرة، في موازاة بدء إيطاليا تحرّكاً قويّاً في إقليم القرن الأفريقي لتعزيز استثماراتها في قطاع الطاقة، واستمرار الترقُّب العربي (المصري في الأساس) للتطوّرات عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
إثيوبيا والهجوم على الصومال: إطلاق سيناريو «سدّ النهضة»
جاءت مذكرة التفاهم (أُعلنت في بداية كانون الثاني 2024) في خضمّ تصاعد الاضطرابات في حوض البحر الأحمر، وبعد أيام قليلة من اختتام آخر جولة محادثات حول «سد النهضة» (كانون الأول، 2023) بلا جديد، لتذكّر بتناقضات سياسات إثيوبيا الخارجية. إذ تلا الإعلان عن توقيع المذكّرة تفنيد الخارجية الإثيوبية وآبي أحمد نفسه، لـ»ادّعاءات» رئيس إقليم أرض الصومال، محمد بيحي، تعهُّد أديس أبابا بالاعتراف بالإقليم «دولة مستقلّة»، وتأكيدهما أن إثيوبيا تعهّدت فقط بالنظر في المسألة. وعلى إثر ذلك، صدق «حزب الازدهار» الحاكم، في نهاية كانون الثاني، على قرار تطبيق مذكرة التفاهم، فيما بدأت إثيوبيا العمل على تهدئة الأزمة التي أثارتها خطوتها، قبيل أيام من استضافتها قمة «الاتحاد الأفريقي» (15 الجاري)، الذي لم يُدِن بدوره أديس أبابا، مكتفياً بالدعوة إلى تسوية «الخلاف».
من جانبه، عزّز الصومال جهوده لتقوية مواقفه في مواجهة الهجمة الإثيوبية على سيادته، على رغم محاولات آبي أحمد في مناسبات متفرّقة تهدئة مخاوف مقديشو، إذ إن الأخيرة لا تنظر بجدية إلى هذه التصريحات، ولا سيما أن أغلب المراقبين الصوماليين يَرون أن النظام الإثيوبي يعيد تكرار «سيناريو سدّ النهضة» الذي نفّذه مع مصر، عبر إطلاقه مجموعة متناقضة من المواقف، مراهناً على سياسة النفَس الطويل وتوظيف أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين لمصلحة بلاده، وسط خشية من عجز الصومال عن نيل الدعم الذي أعلنت عنه دول إقليمية (أبرزها مصر) في مواجهة الأطماع الإثيوبية. ولوحظت جهود آبي أحمد في هذا المسار المتناقض، بتأكيده أمام برلمان بلاده (6 الجاري) عدم نيّة إثيوبيا إلحاق الأذى بالصومال، أو مواجهته عسكريّاً، على خلفية مساعي أديس أبابا للوصول إلى منفذ بحري. كما ظهرت محاولته تفادي تشابك أزمتَي السد والاتفاق البحري مع أرض الصومال، على نحو يمثّل قاعدة لتقارب/ تحالف صومالي - مصري سيفرض عواقب جيوسياسية خطيرة على إثيوبيا، وذلك باتهامه في الخطاب نفسه «بعض القوى بأنها تحاول إثارة الصراع بين البلدَين» (قاصداً مصر)، معرباً عن رغبته في الحوار مع مصر حول تشغيل السد. لكن الاضطراب الإثيوبي المشار إليه لا يمثّل تراجعاً بقدْر ما هو نهج مجرّب لتحقيق مكاسب على الأرض (مع مرور الوقت وعبر دعم إقليمي - دولي ضمني)، فيما يواجه «الخصوم» مأزق الاستجابات المناسبة مرّة تلو أخرى.
جاءت مذكرة التفاهم في خضمّ تصاعد الاضطرابات في حوض البحر الأحمر


أزمة «أرض الصومال» على هامش التغييرات السياسية في إثيوبيا
في تعزيز للتوجه الإثيوبي لتحقيق أهداف السياسات الخارجية، بغضّ النظر عن اعتبارات سيادة أو حقوق دول الجوار، أُعلن في أديس أبابا، في 7 الجاري، عزم البرلمان على التصديق على استبدال عدد من وزراء الحكومة، بما في ذلك تعيين نائب جديد لآبي، خَلَفاً للديبلوماسي المخضرم، ديميكي مكونن. وعلى رغم حساسية التوقيت، وما يتردّد عن تداعيات سلبية واجهت الديبلوماسية الإثيوبية في الأسابيع الأخيرة على خلفية «مذكرة التفاهم مع أرض الصومال»، فإن مراقبين إثيوبيين رأوا أن التغييرات جاءت في سياق السياسات الإثيوبية التقليدية بتدوير المناصب، علماً أن هذه التغييرات تُحكم قبضة آبي أحمد المشدّدة على السلطة التنفيذية وتغلّب الطابع الأمني عليها. وعُيّن تيميسجن تيرونه، وهو مدير الاستخبارات الوطنية والأجهزة الأمنية الذي خلف آبي أحمد في المنصب نفسه من قبل، في منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، فيما عُيّن السفير تايه أتسكي سيلاسي (سفير إثيوبيا لدى مصر بين عامَي 2017 و2018) وزيراً للشؤون الخارجية. كما تمّ تصعيد رضوان حسين (المستشار الأمني لآبي أحمد) لتولّي رئاسة الاستخبارات الوطنية. ويؤشر تعيين سيلاسي إلى اهتمام إثيوبي متزايد بقضايا العلاقات مع مصر والشرق الأوسط بشكل عام.

الصومال وديناميات المواجهة: البقاء في مظلّة «الشركاء»
على رغم الموقف المصري الرسمي القوي الذي أيّد الصومال، وعبّر عن استعداد القاهرة لدعم الأخير بكل السبل الممكنة (بما في ذلك الدعم العسكري)، فإن تبعات انشغال القاهرة بالتطوّرات الجارية على حدودها الشرقية، وتداعيات فتور الحضور المصري في مجمل قضايا القرن الأفريقي في السنوات الأخيرة، ربّما ستمثّل عوائق عملية في طريق دعم الصومال، والخروج عن ضوابط السياسات الخليجية التقليدية (ولا سيما الإمارات التي وقّعت في عام 2023 اتفاقاً للتعاون الدفاعي والأمني مع مقديشو، وبدأت في استكشاف مصالحها المباشرة مع الأخيرة، ما زاد من تهميش الدور المصري القائم أو المحتمل بشكل غير مباشر). كما خصم فشل مصر في مواجهة الديبلوماسية الإثيوبية في ملفّ «سد النهضة» من ثقة قطاعات سياسية في مقديشو، وفق ما اتّضح في انتشار تقارير صومالية مكثّفة عن زيارة مرتقبة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى مقديشو، قابلها صمت تام في القاهرة زاد من غموض الموقف المصري وحدود إمكاناته على الأرض.
أما الاستجابة السريعة لمساعي الصومال لتعزيز قدراته في مواجهة الأطماع الإثيوبية، فأتت من تركيا التي استضافت وزير الدفاع الصومالي، عبد القادر محمد نور (8 الجاري)، الذي وقّع مع نظيره التركي، يشار غولر، «اتفاقاً إطارياً للتعاون الدفاعي والاقتصادي» بين البلدين. وجاء الاتفاق ليؤكد تحرّك الصومال لحماية سيادته وتعزيز قدراته العسكرية، ومنع أيّ خطوات إثيوبية في إقليم أرض الصومال، فيما يمكن ملاحظة مجيء التحرّك التركي في توقيت حاسم، بعد أيام قليلة من مشاركة تركيا في اجتماع أمني رفيع في العاصمة الإماراتية أبو ظبي (31 كانون الثاني)، حضره الرئيس الصومالي، حسن شيخ، ووفود من قطر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والإمارات، وتمّت فيه مناقشة مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال.
وهكذا، فإن مقاربة الصومال لمواجهة الأطماع الإثيوبية تظلّ ترتكز في الأساس على التقارب مع أهمّ شركاء الصومال (الذين حضر أغلبهم اجتماع أبو ظبي، ولم تُدعَ إليه القاهرة في دلالة على الحرص على تهدئة مخاوف أديس أبابا)، وإعلاء مبدأ الحفاظ على سيادته واستقراره، مع فتح نافذة ضيّقة، وربّما تكتيكية، للتفاهم مع إثيوبيا في ملفّ «وصولها إلى منفذ بحري».