صراع إرادات يخوضه زعيم «حزب الإنصاف»، عمران خان، ضدّ حكومة شهباز شريف المدعومة من الجيش في باكستان، تزداد سخونته مع اقتراب موعد الانتخابات في آب المقبل. فصول هذا الصراع، تصدّرت عناوين المشهد الداخلي الباكستاني خلال الأشهر الماضية، حتى إنها في بعض الأحيان استقطبت اهتمام النخبة والجمهور على حساب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة يوماً بعد يوم. السجال المستمرّ بين الرجلين تعود جذوره إلى أزمة سحب الثقة من حكومة خان السابقة في نيسان من العام الماضي، بتواطؤ الجيش والبرلمان، كما يصرّ رئيس الحكومة السابق. وبهدف تعزيز مطالبه بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة على المستويَين الوطني والمحلّي، أوعز زعيم «الإنصاف»، مطلع العام الجاري، إلى أعضاء حزبه، بالاستقالة من برلمانَي البنجاب وخيبر بختونخوان، وهما إقليمان كان الحزب قد حاز غالبية مقاعدهما في الانتخابات الأخيرة، وذلك لحثّ الحكومة على إجراء انتخابات برلمانية، أقلّه على المستوى المحلّي، خلال مهلة 90 يوماً من تاريخ حلّ البرلمانَين، كما يقتضي الدستور. «نيران» المعركة الدائرة بين رئيس الحكومة الحالي، وسلفه، لا تكاد تخمد في بُعدها السياسي، حتى تشتعل نارها على الصعيدَين الأمني والقضائي. آخر تجلّيات هذا التناوب في أوجُه التأزّم، تجسَّد في قرار لـ«المحكمة العليا» الباكستانية، قبل أيام، قضى بإبطال اعتقال خان على ذمّة التحقيق بموجب تهم فساد. قرارٌ جاء بعد سلسلة صدامات بين أنصار رئيس الحكومة السابق، والشرطة، في عدد من كبريات مدن البلاد، وخاصّة في مدينة لاهور، عاصمة إقليم البنجاب، حيث احتشد مناصرو خان أمام منزله رفضاً لاعتقاله، فيما برّرت أعلى محكمة في هرم السلطة القضائية في باكستان، الإبطال من منطلق عدم جواز اعتقال خان من دون الحصول على إذن من السلطة القضائية، وهو ما فتح الباب أمام إمكانية أن تعيد السلطة الكرّة عبر محاولة اعتقاله في مقبل الأيام، أو منعه من الترشّح، تحت ذرائع مختلفة. ومع ذلك، لا مناص من القول إن لاعب «الكريكيت» السابق قد حقّق، بعد الحكم القضائي الأخير، فوزاً سياسياً وقانونياً. كذلك، لم تقتصر نجاحات الحركة الاعتراضية التي يقودها خان، على المؤازرة القضائية التي حظي بها هذه المرّة، إنما تعدّتها إلى ما تبدّى من استماتة القاعدة الشعبية المؤيِّدة للرجل في الدفاع عنه، لا بل إن مشهد الاحتكاك العنيف بين المتظاهرين والعسكريين، والذي خلّف ما لا يقلّ عن تسعة قتلى، ومئات الجرحى، مثّل سابقة غير مألوفة في تاريخ البلاد، بالنظر إلى القوّة والمهابة اللتين يحظى بهما الجيش في نظر مواطنيه.
وسط هذا الجو المشحون في الشارع، والذي ترافق مع حملة اعتقالات طالت الآلاف من أنصار خان، من بينهم مساعده المقرّب، وزير الإعلام السابق فؤاد شودري، فضلاً عن مقتل بعضهم، إضافة إلى إصابة عناصر من الشرطة، وتعرّض منشآت تابعة للجيش لأعمال تخريب، حضرت المؤسّسة العسكرية في قلْب الصراع السياسي من جديد، حين حذّرت، في بيان شديد اللهجة، أمس، الجهات التي تقف وراء استهداف المنشآت التابعة لها، متوعّدة من سمّتهم «الجناة» و«المفسدين»، في إشارة إلى التطوّرات التي أعقبت اعتقال خان. البيان، حمل صدى تحذيرات مماثلة كان قد وجّهها وزير الدفاع الباكستاني، خواجة آصف، حين أكد أن لدى قوّاته «كامل القدرة والإرادة للسيطرة على أعمال الشغب التي يفتعلها خان وأنصاره».
الدولة الآسيوية، البالغ تعداد سكّانها نحو 232 مليون نسمة، والواقعة تحت تأثير كوارث طبيعية، من فيضانات وزلازل زادت حدّتها خلال الأعوام الأخيرة، بفعل الاحترار العالمي، لا تبدو في منأى عن زلازل سياسية مصاحِبة عكَسها صمود خان في مواجهة العسكر، بما يشي بتحوّلات في التوازنات الداخلية لباكستان. ومن هذا المنطلق، يشير خبراء في الشأن الباكستاني إلى أن قدرة خان حتى اللحظة على تفادي تعرّضه لعقوبة السجن، تحمل دلالات في شأن تراجع نفوذ الجيش، أو وجود انقسامات عميقة في صفوف قياداته. ولتأكيد ذلك، يشرح أستاذ الدراسات الدولية في جامعة بوسطن، عادل نجم، أن «استراتيجية المؤسّسة العسكرية القائمة على تهميش السياسيين من خلال الاعتقالات وتوجيه التهم ضدّهم ربّما لم تَعُد تتمتّع بذات القدْر من الفاعلية كما كان عليه الوضع في السابق»، ملمّحاً إلى أن برنامج خان المعادي للدولة العميقة، ربّما يكون قد أكسبه تعاطف بعض القضاة، على نحو يجعل اعتقاله مسألةً أكثر صعوبة.
قدرة خان حتى اللحظة على تفادي تعرّضه لعقوبة السجن تحمل دلالات في شأن تراجع نفوذ الجيش


وفي مقابل الدخول المبكّر للمؤسّسة العسكرية على خط الأزمة السياسية، تأييداً لشريف، ثمّة مَن بنى على التطوّرات الأخيرة باعتبارها دلالة على دخول متأخر موازٍ للمؤسّسة القضائية، تأييداً لخان، ولا سيما أن القرار الأخير يُعدّ ثاني قرار يَصدر عن «المحكمة العليا»، خلال أسابيع قليلة، للبتّ في قضيّة سياسية كبرى، خلافاً لأهواء الفريق الحكومي، المؤيَّد من الجيش. فخلال الشهر الماضي، قضت المحكمة نفسها بعدم دستورية تأجيل لجنة الانتخابات التابعة للحكومة الباكستانية موعد إجراء الانتخابات المحلّية في إقليمَي البنجاب وخيبر بختونخوا، والذي جاء في الأصل بذريعة الوضعَين الأمني والاقتصادي، وبحجّة تعزيز «الوحدة الوطنية» عبر مزامنة الانتخابات الإقليمية والبرلمانية العامّة المرجّح أن تجري في تشرين الأول المقبل.
وكانت المحكمة قد دعت حكومة شريف إلى تنظيم «المحليات» خلال مهلة لا تتعدّى 15 أيار الجاري، وهو ما رفضه رئيس الحكومة، وعدّه بمثابة «استهزاء بالقانون والدستور»، علماً أنّ قرارات «العليا» غير قابلة للاستئناف، على رغم قابليتها للمراجعة، وإنْ بنطاق ضيّق ومحدود. وفي الإطار نفسه، عبّر وزير العدل الباكستاني، نذير تارار، عن رفضه قرار «المحكمة العليا» في شأن الانتخابات المحلّية، واصفاً إياه بـ«غير الدستوري»، مشيراً إلى أنه جاء بموافقة ثلاثة من أعضائها فقط، من أصل تسعة، من بينهم أربعة جاءت مواقفهم معارضة أو متحفّظة حيال القرار. ولفت تارار إلى أن حكومته ستتوجّه إلى محكمتَي خيبر بختونخوا والبنجاب للنظر في القضيّة، مؤكداً أنّ «قرارهما سيكون المعتمد». أكثر من ذلك، هدّد وزير الخارجية، بيلاوال زرداري، بإعلان حالة الطوارئ على خلفية ملفّ الانتخابات، مطالباً رئيس «المحكمة العليا»، عمر آتا بانديال، بـ«ترتيب محكمته» أو التنحّي.
وبدا لافتاً، خلال الآونة الأخيرة، توجُّه الفريق الموالي للحكومة، إلى التشكيك في «الصلاحيات الانتخابية» لـ«المحكمة العليا»، لمصلحة لجنة الانتخابات. وكمؤشّر إلى نذر حرب صلاحيات بين الحكومة والمحكمة، نشأت على هامش صراع خان - شريف، تقدَّمت الأولى في آذار الفائت بمقترح يمسّ بصلاحيات الثانية، ويتيح استئناف قراراتها، الأمر الذي اصطدم بمعارضة الرئيس عارف علوي، إلى جانب تمرير مشروع قانون في مجلس النواب يتيح للحكومة مخالفة القرار القضائي بإجراء الانتخابات المحلية في البنجاب وخيبر بختونخوا، وهما مسعيان يصبّان في خانة البحث عن مخرج لاستمرار المماطلة في إجراء الانتخابات. وبحسب مراقبين، فإن كسْر قرار اعتقال خان، يوسّع الهوة بين المؤسّستَين القضائية والعسكرية، ويهيّئ الأرضية لصدام مرتقب بينهما، وخصوصاً أن الأخيرة هي التي تقف وراء هذا القرار. وتنقل مجلّة «فورين بوليسي» عن مصادر مقربة من حكومة شريف، قولها، إن الخلاف بين الحكومة و«المحكمة العليا» يندرج في إطار «مؤامرة مدبّرة من قِبَل قضاة موالين لخان». وبحسب المجلّة، فإن ما ذهبت إليه الحكومة الباكستانية يشي بأنها «لن تسمح لقرارات المحكمة العليا بأن تقف في طريق أهدافها السياسية» في وجه خان. وعن استراتيجية حكومة شريف لمواجهة خان، تعتقد المجلّة الأميركية أن «للحكومة مصلحة قوية في الحفاظ على غموض نواياها في شأن (موعد) الانتخابات الوطنية، بالنظر إلى أن حالة الضبابية وعدم اليقين من شأنها أن تبقي (مصير) خان وحزبه وجمهوره على المحكّ، وفي حالةٍ من التوتّر والترقّب». وتضيف إنه «إلى حين التزام الحكومة بإجراء انتخابات وطنية كما هو مقرّر، سيبقى موقف خان، شأنه شأن قاعدته الشعبية المتنامية، متيناً وصلباً».
هكذا، تبدو حكومة شريف كأنها قد حَسمت أمرها برفْع سقف التحدّي مع خان إلى مستوى جديد. وبعد إخفاقها في انتزاع انتصار قضائي ضدّ خان في ملفّ الانتخابات، قد تعيد الكرّة مجدّداً لإدانته عبر القضاء، وربّما هذه المرّة في ملفّ مقاومة جمهوره وقيادات حزبه، لرجال الأمن إبّان الأحداث الأخيرة، وذلك عبر استغلال ثغرات «قانون مكافحة الإرهاب». لعلّه لن يطول الأمر، حتى يجد شريف الفرصة المناسبة لبدء الجولة المقبلة من المواجهة ضدّ زعيم «الإنصاف». وفي هذا الصدد، يرى مدير «معهد جنوب آسيا للدراسات» في «مركز ويلسن»، مايكل كوغلمان، أن «من الواضح جدّاً أن القيادتَين المدنية والعسكرية تفضّلان، إلى حد كبير، القضاء على فرص خان بالعودة إلى السلطة»، مشيراً إلى أن «الحكومة، على رغم تعرّضها للحرج بفعل القرار الأخير للمحكمة العليا، ليست في وارد الاستسلام».