«الردح» الانتخابي المتعالي في تركيا مع اقتراب الاستحقاقَين الرئاسي والنيابي، يشي أوّلاً وأساساً بشراسة المعركة المرتقبة، والمباحة فيها، كما يَظهر، كافة أنواع السلاح، سواء الفعلية منها، كما في حالة الاعتداء المسلّح على مقرّ «الحزب الجيّد»؛ أو الدينية، مع اتهام كمال كيليتشدار أوغلو، من جانب السلطة، بأنه «عدو» المسلمين، بعدما صُوِّر وهو يقف على سجادة صلاة في أحد المطاعم. وإذا كان الرئيس رجب طيب إردوغان ممتلئ اليدين، ومطمئنّاً إلى نصر يراه قادماً، فإن الأرقام لا تبدو متّفقةً تماماً مع تطلّعاته، وإن كانت لا تعطي نصراً حاسماً لمرشّح المعارضة، ما قد يستتبع جولة إعادة لا يَظهر أحد متحمّساً لها
ليس ثمّة في تركيا مَن يعير انتباهاً للّقاء الرباعي (تركيا، سوريا، روسيا وإيران) الذي انعقد في موسكو، ولا لانضمام فنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي». فالكلّ غارق، من قمّة الرأس حتى أخمص القدمين، في الانتخابات الرئاسية والنيابية التي ستجرى بعد أقلّ من 40 يوماً. وإذ يعكس الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في مقابلة تلفزيونية، ارتياحاً لِما بين يدَيه من نتائج استطلاع، تشير إلى «تقدُّمنا، وبفارق كبير» على المعارضة، إلّا أن رئيس «حزب المستقبل» المعارض، أحمد داود أوغلو، يقول العكس: «هذه ليست انتخابات رئاسة، بل استفتاء على تغيير النظام. وإذا لم تحدث أخطاء، فإن المعركة الرئاسية والنيابية ستنتهي بـ 60% لمصلحتنا، في مقابل 40%». هذا التعارض في الأرقام/ التوقّعات، يعكس شراسة المعركة الانتخابية الرئاسية والنيابية التي ستشهدها تركيا، إذ تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المحرّمة، الفعليّة والدينيّة.
حادثتان أثارتا أخيراً سجالاً حاداً ومتوتّراً في الآونة الأخيرة؛ الأولى هي إطلاق النار، في 31 آذار الفائت، على مقرّ «الحزب الجيّد» في إسطنبول، حيث أصابت رصاصتان المبنى. وفي الحال، كانت مرال آقشينير، زعيمة الحزب، توجّه أصابع الاتهام إلى إردوغان، متوجّهة إليه بالقول: «إذا أردتَ أن تأتي، فلا ترسل رصاصات، بل تعال بنفسك»، وذلك بعدما كان الرئيس قد توجّه سابقاً بانتقاد حادّ إلى «الزعيمة»، رأت أنّه تهديد لها، إذ قال: «اسمي طيب وعائلتي إردوغان. انتبهي لإردوغان. وانتبهي لاسم طيّب. عندما تتحدّثين، خذي ذلك في الاعتبار. ولا تشغلي نفسك بي». فردّت عليه آقشينير، قائلة: «إن مَن يهدّد آقشينير لم تلدْه أمه بعد. أوَتظنّ أنك تدير هذا البلد؟». غير أن خطاب زعيمة «الجيّد»، أول من أمس، أمام نوّاب حزبها، والذي جاء بعد عملية الاستهداف، شكّل ذروة التصعيد، عندما قالت لإردوغان: «أبالرصاصة تخوّفنا؟ اطمئنّ يا رجب بك، لا تقلق، أنا أعرف جيّداً مع مَن وبمَن أنشغل. أنا أنشغل بمَن يأكل حقّ العبد. وبمَن ينشر على الشاشة رسالة للإرهابيين. ولكن سواء أعجبك أم لم يعجبك، سأواصل الانشغال بمَن يجب... إنك تحوّلت إلى دمية للمافيات والسماسرة». والتقطت آقشينير «كمشة» من أغلفة الرصاصات الفارغة التي كانت موجودة أمامها، ورمتها على ثلاث دفعات على الأرض، مطلقةً هتافات ومتعهّدة بإسقاط إردوغان في 14 أيار المقبل. وتلت خطبتها، تغريدات دعْم من مرشّح المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو، الذي وصف خطابها بـ«التاريخي»، ودعا الجميع إلى إعادة الاستماع إليه.
أما الحادثة الثانية، فكانت التقاط صورة في أحد المطاعم لكيليتشدار أوغلو، ويبدو فيها واقفاً على سجادة صغيرة للصلاة في إحدى غرف المطعم ومعه مسؤولون آخرون. وأثار ذلك «قيامة» الإعلام الموالي الذي صبّ جام غضبه على مرشّح المعارضة «عدوّ» المسلمين الذي «لا يحترم مقدّساتهم». فسارع كيليتشدار أوغلو، فور انتشار الصورة، إلى الاعتذار، قائلاً إنه لم ينتبه إلى وجود السجادة، وأن الحرس عادةً ما يتقدّمون الصفوف، والآخرين يسيرون وراءهم من دون النظر إلى الأرض، فضلاً عن أن السجادة الصغيرة موضوعة على سجادة كبيرة ومن اللون نفسه. وتبيّن أن نائباً سابقاً في «حزب العدالة والتنمية» وأحد القضاة المتقاعدين أدّيا الصلاة على السجادة في القاعة المذكورة، ومن ثمّ تركاها في مكانها بذريعة أن آخرين سيصلّون عليها. أما صاحب المطعم، فأكد أنه لا علاقة لكيليتشدار أوغلو بالحادثة، بل هي نتيجة إهمال إدارة المطعم التي تركت السجادة على الأرض. وتحدّث مسؤول في رئاسة الشؤون الدينية، قائلاً إن «السجادة ليست من مقدّسات الدين، ولكن لها اعتبار معنوي». لكن الحادثة جاءت، كما يقال، «شحمة على فطيرة»، إذ كان إردوغان نفسه رأس الحربة في الردّ على كيليتشدار أوغلو عندما وقف في مهرجان انتخابي مع شريكه دولت باهتشلي وحمل سجادة صغيرة، قائلاً للحشود: «صباح 15 أيار، سأصلّي على هذه السجادة صلاة شكر على انتخابي من جديد رئيساً للجمهورية».
تصرّ الصحف الموالية على وصف كيليتشدار أوغلو بأنه مرشّح «طاولة السبعة»


وعلى صعيد لائحة المرشّحين للنيابة، فقد برز ما أوردته صحيفة «حرييات» من أن جميع وزراء الحكومة يتقدّمون اللوائح؛ من هؤلاء مثلاً، وزير الدفاع خلوصي آقار (عن محافظة قيصري)، نائب رئيس الجمهورية فؤاد أوكتاي (أنقرة)، وزير الثقافة محمد إرصوي (آيدين)، وزير الداخلية سليمان صويلو (إسطنبول أو إحدى المحافظات على البحر الأسود)، وزير العدل بكر بوزداغ (شانلي أورفة)، وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو (أنطاليا)، ووزير الصحة فخر الدين خوجا (هاتاي). ونظراً إلى أن ترتيب هؤلاء سيكون في رأس القوائم، فإن نجاحهم سيكون مضموناً، وفقاً للنظام الانتخابي النسبي، وبالتالي سنكون، سواء فاز إردوغان بالرئاسة أو لا، أمام وزراء جدد للخارجية والدفاع والداخلية، وما يحملونه من ملفّات، وخصوصاً بالنسبة إلى سوريا. وبحسب الصحيفة، فإن إردوغان سيجول، حتى 14 أيار المقبل، في أربعين محافظة. وهو تحدّث عن المعركة الانتخابية، قائلاً إنه سيكون من بين مرشّحي «العدالة والتنمية» فنّانون ومثقّفون، وإنه سيبدأ المهرجانات الانتخابية بعد عيد الفطر مباشرة. ويعوّل الرئيس التركي على اثنَين من إنجازاته، وهما: وضع أول سيارة تركية الصنع، اسمها «توغ» (TOGG)، وهي الأحرف الأولى من اسم «مجموعة مبادرة السيارات التركية»، في الخدمة، وقد تسلّم إردوغان أول نسخة منها، والثانية أُهديت إلى الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف. والثاني هو إعلان الرئيس التركي بدء دخول الغاز المستخرج من البحر الأسود السوق، يوم 20 نيسان الجاري.
في هذا الوقت، أعلنت «اللجنة العليا للانتخابات» أن عدد الناخبين هو 64 مليوناً و191 ألفاً، من بينهم 7 ملايين ناخب جدد، ومنهم 3 ملايين و286 ألفاً يعيشون خارج البلاد. وذكرت اللجنة أنه سيتمّ وضع حوالي 196 ألف صندوقة اقتراع، منها خمسة آلاف خارج البلاد.
أمّا على صعيد المعارضة، فيلاحَظ أن المهرجانات الانتخابية لمرشّحها، كمال كيليتشدار أوغلو، يشاركه فيها وأحياناً بصورة مستقلّة رئيسا بلديّتَي أنقرة وإسطنبول منصور ياواش وأكرم إمام أوغلو، كونهما يحظيان بشعبية كبيرة ويضيفان قوّة إلى حملة مرشّح حزبهما. وقد أعلن أحمد أوزال، ابن الرئيس التركي الراحل طورغوت أوزال، دعمه لكيليتشدار أوغلو، ولهذا أهمية معنوية ليس أكثر، كون إردوغان يَعتبر الرئيس الراحل قدوة عليا. وبرز أخيراً ترشيح العديد من المثقّفين المعروفين على لوائح الأحزاب؛ فبعد ترشُّح حسن جمال على لائحة «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، ترشَّح كذلك الكاتب المعروف جنكيز تشاندار على لائحة الحزب نفسه. والجدير ذكره أن الحزب، واحتياطاً لإمكانية حظره قبل الانتخابات النيابية، يخوض المعركة باسم «حزب اليسار الأخضر»، فيما جاهر الكاتب المعروف أيضاً، علي بيرم أوغلو - وكان الثلاثة سابقاً من داعمي إردوغان - بتأييده لكيليتشدار أوغلو، ذلك أن تركيا «تحتاج إلى رئيس يمثّل المؤسسة، لا الشخص، وإلى رئيس يلائم جيّداً بين المجتمع والسياسة وتحيط به القيم الديموقراطية، رئيس يمثّل الصراع ويحمله ولا يعكس الاستقطاب كما هي الحال مع إردوغان». وأضاف: «كيليتشدار أوغلو هو الاسم الأكثر ملاءمة».
وفي وقت تصرّ فيه الصحف الموالية على وصف كيليتشدار أوغلو بأنه مرشّح «طاولة السبعة»، لا الستة، معتبرة أن الحزب الكردي جزء غير مرئي من هذه الطاولة، قالت رئيسة «الشعوب الديموقراطي»، برفين بولدان، إن «العدالة والتنمية يعيش خوفاً حقيقيّاً، ولن نمنحه الفرصة ليفوز بأيّ مقعد نيابي في ديار بكر، وسنفوز 12 مقابل صفر». في المقال، يرى الباحث في شؤون الاستطلاع، جان سلجوقي، أن نسبة الأصوات المرتفعة التي قد ينالها محرم إينجه سببها أنه نجح في جذْب الذي تسبّب به الزلزال، ووصلت أصواته إلى 5.6%. ويقول إن الزلزال، مع ذلك، «لم يُحدث تغييراً كبيراً في اتّجاهات التصويت»، وإن «87% من الشباب قالوا إنهم سيصوّتون، ومعظمهم سيصوّت لـ«تحالف الأمّة» المعارض»، داعياً إلى أن يعاد العمل بوضع الحبر على الإصبع لأن عدم تغميس الإصبع، «سيكون باباً للتزوير». ويبيّن أن بقاء المعركة الرئاسية لدورة ثانية، مرتبط بحجم الأصوات التي سينالها محرم إينجه، أو ما إذا كان سينسحب قبل ذلك، و«هذا حتى الآن مستبعد»، مشيراً إلى أن نسبة التصويت يُتوقّع أن تكون مرتفعة، وقد تصل إلى 85% -87%. ونشرت شركة «متروبول» المعروفة استطلاعاً للرأي، قالت فيه إن إردوغان كان متقدّماً على كيليتشدار أوغلو، بـ 45.9% مقابل 43% في شهر كانون الثاني، وبـ 42.7% مقابل 41.4% في شباط. لكن، في آذار، أظهر الاستطلاع للمرّة الأولى تراجع إردوغان وتقدُّم منافسه بنسبة 44.6% مقابل 42%. وبحسب رئيس الشركة، أوزير سنجار، فإنّ «عاملَيِ الغلاء الفاحش والبطالة يضغطان على فرص إردوغان. والوقت القصير حتى الانتخابات لا يسمح له بتصحيح هذا الوضع».