حتى إذا لم يُنهِ الاتّفاق السعودي - الإيراني، تماماً، التنافس الطبيعي بين دولتَين إقليميّتَين كُبريَين في الشرق الأوسط، فقد يكفيه ليمثّل إنجازاً، أن يَحيد بذلك التنافس عن استخدام بؤر التوتّر كوسيلة لتحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر. ويَظهر أن الصين، الراعية للإعلان، استطاعت أن تُسوّق لدى الطرفَين أسلوبها الخاص القائم على النفَس الطويل، والذي لم تَستخدم فيه أبداً تكتيك الاستنزاف، على رغم أن هذا الأخير يكاد لا يخلو منه أيّ صراع في التاريخ، بما يشمل كلّ الصراعات التي انخرطت فيها أميركا ووظّفت فيها آلتها العسكرية وقدرتها الاقتصادية على شكل عقوبات خانقة ضدّ الخصوم
يكفي أن يُغيّر الاتّفاق بين السعودية وإيران ديناميّة التنافس بينهما، ويُحوّلها من أن تكون قائمة على الاستخدام المتبادل لبؤر التوتّر، إلى تنافس طبيعي بين دولتَين إقليميّتَين كبريَين تبحث كلّ منهما عن مصالحها الخاصة، حتى يمثّل فاتحة لتطبيع الأوضاع في المنطقة، بما يُجنّبها استنزاف مواردها والحدّ من فُرص التنمية فيها، ليس في البلدَين المعنيَّين فقط، وإنّما في كلّ الدول المحيطة المتأثّرة بالصراع المرير بينهما. هذا هو العامل الأساسي الذي يمكن أن يحمي الاتّفاق، إضافة إلى أن الرهان كبير بالنسبة إلى كلّ من الطرفَين عليه، حيث يمكنه أن يكون في آن معاً، بديلاً ظرفياً أو دائماً للاتّفاق النووي الذي كان يَجري التفاوض على العودة إليه بين طهران وواشنطن، وللصيغة التي كانت أميركا تسعى إلى إقناع السعودية بها (وفشلت)، في ما يتعلّق بتوفير ضمانات أمنية أميركية للمملكة تحلّ محل صيغة «النفط مقابل الأمن» التي انتهت عملياً، وتُفضي إلى بنية أمنية مختلفة تكون إسرائيل محورها، ويبدو أن المملكة وجدت أن مخاطرها السياسية والأمنية عالية جداً، بحيث تنعدم أيّ جدوى مفترَضة منها.
الولايات المتحدة تريد التخفّف من الأكلاف التي يرتّبها التورّط في الشرق الأوسط. و«التخارج» من الشرق الأوسط، مسار بدأ قبل سنوات طويلة، ولم تفلح معه محاولات إسرائيل المستميتة لوقفه باعتباره مضرّاً بها. ولم تكن محاولات التعويض التي تأتي على شكل مبيعات أسلحة أكثر تطوّراً أو على شكل رفْع مستوى الاتّفاقات الدفاعية المشتركة، كافية لإقناع تل أبيب بقبول هذا المسار الأميركي. وإسرائيل تعي أن تطبيع العلاقات مع الدول العربية المهمّة، والسعودية في الطليعة، لا يمكن أن يحصل من دون ضمانات أمنية أميركية كافية للمملكة. فهي لا تستطيع، لا سياسياً ولا عسكرياً، القيام بدور الضامن. والدليل هو الاتّفاق السعودي - الإيراني نفسه الذي يُعدّ بلا أدنى شكّ، من جهة المملكة بحثاً عن بديل لتلك الضمانات غير المتوافرة. وذلك ما أقرّ به الأميركيون عملياً، من خلال تأكيدات البيت الأبيض (كما نقلت مجلة «ذا هيل» المتخصّصة في شؤون الكونغرس) أن السعودية تقدّمت بجملة مطالب للولايات المتحدة مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تشمل ضمانات أمنية محدّدة، وتدفّقاً حرّاً لشحنات الأسلحة الأميركية إليها، ومساعدتها في برنامج نووي سلمي.
هل يفتح الاتفاق آفاقاً للتنسيق حيث يجد البلَدان مصلحة مشتركة لهما؟


أميركا ما بعد 11 أيلول غيّرت نظرتها إلى السعودية. بقي التحالف على المستوى الرسمي، إلّا أن الأصوات ارتفعت بالمطالبة بالتعامل معها كعدو لا كحليف. على أن ما يَجدر التنبيه إليه هنا هو أنه لا المملكة، على أهمّيتها، ولا أيّ دولة عربية أخرى، كانت حليفاً حقيقياً بنظر الولايات المتحدة في أيّ يوم من الأيام، منذ نشوء العلاقات قبل عشرات السنين؛ إذ كانت واشنطن دائماً تَنظر إلى الدول العربية على أنها غير موثوقة، ولا يمكن بيعها أنواعاً معيّنة من الأسلحة، نتيجة الخوف من أن تقع في أيدي أعداء للولايات المتحدة وتُستخدم ضدها، إذا ما تَغيّر الحُكم في أيّ من تلك الدول، وهو كان أمراً متوقَّعاً بصورة دائمة من قِبَل الأميركيين. وللسبب المتقدّم بالذات، تجد واشنطن صعوبة في توفير ضمانات أمنية كافية للسعودية أو دول الخليج الأخرى، من دون الوجود المادّي المباشر للجنود والأصول العسكرية الأميركية على الأرض. وهذا هو ما اتّخذت أميركا قراراً على مستوى الدولة، لا الإدارة، بعدم الاستمرار فيه، نظراً إلى كلفته البشرية والمادّية الباهظة، وليس من المرجّح أن تعود عن قرار كذاك حتى لو كان الثمن ترْك فراغ تملأه الصين. على الجهة الإيرانية، تعتقد طهران أن قرارها الانحياز التامّ إلى روسيا في أوكرانيا، ضاءل فُرص العودة إلى الاتّفاق النووي، وإنْ لم يوصد الأبواب أمام اتّفاقات جزئية بين الجانبَين. بالتالي، فإن التفاهم مع الرياض كان ضرورة كمتنفَّس نتيجة تصعيد الضغط الغربي إلى الحدود القصوى.
وفي الإجمال، الاتّفاق يعني بالنسبة إلى كلّ من السعودية وإيران، تغييراً في قواعد التنافس، أكثر منه توجّهاً نحو الشراكة، وإنّما يمكنه أن يفتح آفاقاً للتنسيق في حقول مختلفة قد يجد البَلدان مصلحة مشتركة فيها، كالنفط والغاز مثلاً، على الطريقة نفسها التي تتنافس بها الصين مع الولايات المتحدة، حيث يمكن لبكين أن تكون شريكاً تجارياً كبيراً لواشنطن، وفي الوقت نفسه الخصم الأساسي لها في صراع النفوذ الدائر على مساحة العالم. هذه هي الفلسفة التي تقوم عليها العلاقات بين الصين وأميركا، وهذا هو أسلوب الأولى الذي يعتمد النفَس الطويل، لا الصدمات. وبكين، برعايتها للاتّفاق السعودي - الإيراني، قدّمت النموذج المذكور، قبل أن تُقدّم ضمانة لكلّ من الطرفَين لدى الآخر. ولا بدّ أن سلسلة الإخفاقات التي لحقت بوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في صراعاته السياسية والعسكرية الخارجية، قد أوصلتْه إلى اقتناع بأن ما يمتلكه من إمكانات بفضل الوزن النفطي لبلاده، يؤهّله للمنافسة وفق الأسلوب المُشار إليه، أكثر منه وفق النموذج العسكري - السياسي، الذي ثبت ضعف السعودية فيه، بسبب بنيتها القائمة من الأساس على تلزيم الحماية إلى قوى كبرى.
ما سيحصل في الفترة المقبلة هو أن الاتّفاق نفسه سيتعرّض للاختبار بأوجه مختلفة، منها ما يتعلّق بقدرته على الصمود أمام محاولات تخريب محتمَلة من قِبَل أميركا أو إسرائيل، على رغم أن ردّ فعل الأولى جاء مرحِّباً به في حال كان سيسهم في الاستقرار في الشرق الأوسط، ومنها ما يتّصل بتمكّن أطرافه نفسها، نتيجة عوامل داخلية أو مرتبطة بالملفّات الإقليمية العالقة، من الاستجابة لِمَا هو مطلوب منها بموجبه. فهل، على سبيل المثال، يمكن للاتفاق أن يصمد إذا لم يتمّ العثور على حلّ للأزمة اليمنية، يخفّف من العبء الذي تُرتّبه على السعودية؟ أمّا في ما يتّصل بالصين، فإن الإعلان، على ضخامته وأهمّية الإنجاز الذي يمثّله، هو مجرّد بداية لنجاح الدبلوماسية الصينية على المستوى العالمي، فيما لا تزال قدرة بكين على توفير ضمانات لصمود هذا التفاهم أو غيره ممّا قد يَحدث في المستقبل، قيد الاختبار. هل أحدثت أميركا فراغاً استغلّتْه الصين، أم أن بكين تَحفر موقعها في الشرق الأوسط رغماً عن واشنطن؟ الإجابة عن سؤال كذاك تساعد في توقُّع المسار الذي سيلي بالنسبة إلى الشرق الأوسط.