أظْهر الفصل الأخير من سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه إيران، انعطافة حادّة وسريعة، من تبنّي الدبلوماسية المُترافقة مع الضغوط القصوى، إلى الحرب الناعمة المعلَنة. انعطافةٌ مثّلت الاحتجاجات المندلِعة أخيراً في إيران الفُرصة الأنسب لها، خصوصاً في ظلّ سياق عالمي مشتعل على خلفيّة الحرب الروسية في أوكرانيا، كانت له ارتداداته على تحالفات واشنطن في الإقليم؛ وأيضاً تعثُّر مساعي بايدن لإحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي دخل مرحلة أشبه بـ«الموت الرحيم». وتجلّى هذا التحوّل الأميركي في تبنّي الاحتجاجات مبكراً بشكل رسمي وفجّ، والتحرّك السريع لتدويلها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ثمّ إعلان إبعاد المفاوضات النووية عن سُلّم الأولويات والعودة إلى سياسة العقوبات، ولا سيما من خلال إقحام إيران في الأزمة الأوكرانية، عبر اتّهامها بإرسال المسيّرات إلى روسيا والمشاركة اللوجستية في العمليات الحربية.
بين «النووي» والحلفاء
بدت الاحتجاجات الإيرانية أشْبه بطوق نجاة لإدارة بايدن، في وقت لم يَعُد فيه بمقدور الأخير تجاهُل الخلافات بينه وبين الثُّلاثي السعودي - الإماراتي - الإسرائيلي. هذا الحلف الإقليمي كان أرسى موازين جديدة للعلاقة التاريخية بالولايات المتحدة، عنوانها أن كلّ تَقدّم مع إيران بشأن الملفّ النووي، سيُقابله تراجُع مع الحلفاء التقليديين، الذين سيستمرّون، والحال هذه، في تكثيف مساعيهم للبحث عن شراكات دولية جديدة. وإذا كانت السعودية قد ترجمت تلك المعادلة من خلال «تمرّدها» النفطي - الذي يُعزى أيضاً إلى أسباب أخرى غير بعيدة من اعتلال العلاقة بالأميركيين- فإن ذلك لم يمنعها من فتْح قنوات حوار مع إيران، من بوّابة تنويع الخيارات بوجه الانكفاء الأميركي. وقد جاء السعي لنوع من «ربط النزاع» مع طهران، بعدما لم تُوفّر الرياض، جنباً إلى جنب أبو ظبي وتل أبيب، أيّ وسيلة لحرْف الإدارات المتعاقبة عن مسار الاتفاق النووي، سواء عبر جماعات الضغط أو «العطايا» لأعضاء الكونغرس ووزارة الخارجية ومراكز الفكر، وهي استراتيجية آتت أُكُلَها، بالفعل، بدايةَ عهد دونالد ترامب، واستمرّت ثمارها وصولاً إلى قرار وضع «الحرس الثوري» الإيراني على «لائحة الإرهاب» عام 2019، بتأثيرٍ من حملة أطلقتْها السعودية والإمارات والبحرين وإسرائيل، وشاركت فيها أيضاً منظّمة «مجاهدي خلق»، بحسب تسريبات من بريد مسؤول أميركي نشرها موقع «ذا إنترسبت».

«الحمائم» و«الصقور»
في ظلّ هذه الظروف، لم يَجِد بايدن بدّاً من اقتناص فرصة التظاهرات في إيران، من أجل ما سمّاه «تحرير» هذا البلد، قبل أن يضطرّ لتوضيح زلّة لسانه هذه حتى لا تؤثّر سلباً في «عفويّة» الاحتجاجات و«وطنيّتها». وإذا كانت الإدارة الحالية تتطلّع من وراء دعمها الاضطرابات، أقلّه على المدى المنظور، إلى تعزيز أوراقها بوجه النظام الإيراني، وحمْل الأخير على العودة إلى طاولة التفاوض، فإن خيار استئناف المحادثات لا يبدو ميسّراً، حالياً في الحدّ الأدنى، إذ على رغم تلافي الحزب الديموقراطي هزيمة كبرى في الانتخابات النصفية، إلّا أنه أمام استمرار احتمال تفوّق الجمهوريين في الانتخابات المقبلة في عام 2024، وتهديدهم بعرقلة أيّ اتفاق يتطلّع إليه بايدن، سيكون الأخير مضطرّاً لمُجاراة خصومه في تلك المغالاة، ولا سيما في ظلّ تصاعد الانتقادات من داخل حزبه نفسه (15 نائباً) لمساعي إحياء الاتفاق النووي.
في انتظار جلاء نوايا إدارة بايدن المرحلية، يظلّ تبنّي الاحتجاجات في إيران محلّ التقاء بين الحزبَين


وفي انتظار جلاء نوايا إدارة بايدن المرحلية، يظلّ تبنّي الاحتجاجات في إيران محلّ التقاء بين الحزبَين، وهو ما لا يبدو مستغرَباً، إذ إن كلَيهما، عبْر «حمائمهما» أو«صقورهما» من مسؤولين ونوّاب حاليين وسابقين، على صِلة علنية بشخصيات المعارضة الإيرانية في الخارج، سواء مع رضا بهلوي، نجل شاه إيران، المقيم في في الولايات المتحدة منذ ما قبل ثورة 1979، أو ما يُعرف بـ«المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية» الذي شَيّدت له منظّمة «مجاهدي خلق» في ألبانيا صرحاً ضخماً بتمويل سعودي، ويَحضر مؤتمراته في واشنطن وباريس وألبانيا، أمثال الديموقراطييْن براد شيرمان وسكوت بيترز، اللذَين فازا بإعادة انتخابهما هذا العام، ومعظم مسؤولي إدارة ترامب، كنائبه مايك بنس، ووزير خارجيّته مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، ومحاميه الشخصي رودي جولياني، وغيرهم مِمّن كانوا يشغلون مواقع حسّاسة، فضلاً عن رؤساء أوروبيين سابقين وأعضاء برلمانات ونُخب، لم يُخفوا أخيراً دعوتهم إلى تنظيم «ثورة إيرانية جديدة» و«الإطاحة برجال الدين». والجدير ذكره، هنا، أن الإدارات الأميركية على اختلافها دأبت على دعم «مجاهدي خلق» وتوفير الحماية له، خصوصاً منذ غزو العراق عام 2003 بقرار من جورج بوش الابن، قبل أن يأتي خلَفه باراك أوباما ويعمد إلى نقْل وجوه التنظيم إلى ألبانيا، حيث أصبحوا أشبه بحكومة في المنفى برئاسة مريم رجوي، لديها جدول أعمال يومي لاستقطاب جموع العازمين حول العالم على إسقاط الجمهورية الإسلامية.

معالم«الخطة ب»
منذ بداية ولاية بايدن، بدا واضحاً أن الإدارة الجديدة تضع الدبلوماسية على رأس خياراتها في مواجهة إيران، لكن ذلك لم يحجب وجود خُطط أخرى في الخلفيّة، بدأت تَظهر معالمها في اللقاء الذي جمع بايدن برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، ومن ثمّ اجتماع مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، بنظيره الإسرائيلي، إيال حولاتا، وصولاً إلى إعلان الثُّلاثي الأميركي - الإسرائيلي - الإماراتي أن واشنطن وتل أبيب «تستكشفان خيارات جديدة» في حال رفْض طهران الامتثال إلى الاتفاق كما يريده الأميركيون. وإذ اقتصر الحديث، حينها، على عناوين عامّة تتلخّص بضغوط سياسية ودبلوماسية واقتصادية كبيرة ولا تستثني التهديد العسكري، فإن ما بدا لافتاً، في خضمّ موجة الاحتجاجات الحالية، اتّهام وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الولايات المتحدة بالسعي إلى «تنفيذ الخطّة ب».
والواقع أن الاشتغال على خلْق معارضة إيرانية منظّمة، تكون جاهزة للقيام بدورها عند أيّ لحظة مناسبة كما في الاحتجاجات التي اندلعت بين أواخر 2017 وبدايات 2018 رفضاً للسياسات الاقتصادية لحكومة الرئيس حسن روحاني، أو التي تلتْها عامَي 2019 و2020 لأسباب معيشية أيضاً، لم يتوقّف البتّة. وعلى رغم أن هذه الاستراتيجية لا تزال تبدو غير مجدية، إلّا أنها كشفت عن ديناميكية أكثر تعقيداً يمكن اختصارها بمسارَين تمضي فيهما السياسة الأميركية تجاه إيران منذ بدء المفاوضات: الأوّل، إبقاء الباب مفتوحاً للتفاوض من دون التوصّل إلى نتائج عملية على الأرض؛ والثاني، استثمار شهيّة جناح سياسي وشعبي إيراني متأمّل بالاتفاق، عبر ضخّ إعلامي وسياسي لا يستهدف التركيز على قضايا المعيشة فحسب، بل وتصوير النظام على أنه سبب «العزلة» وعائقٌ أمام رفع العقوبات والانفتاح والنموّ. ولعلّ إدراج «الحرس» على «لائحة الإرهاب» جاء في هذا السياق تماماً، بهدف تفريغ أيّ اتفاق محتمَل من مضمونه، على اعتبار أن لـ«الحرس» مصالح في مجالات النفط والاتصالات والموانئ والجمارك وغيرها، إنّما تُبيّن سبب إصرار إيران على إزالة هذه المؤسّسة عن «القائمة السوداء» كشرط لإحياء «خطّة العمل المشتركة الشاملة».



ماكينة «مجاهدي خلق»
لا يقتصر دور «مجاهدي خلق» على قيادة أنشطة المعارضة، بل يتعدّاها إلى التأثير في برلمانات؛ من بينها الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا وكندا وإيطاليا وإسبانيا، من خلال «عطايا» مالية لحملات انتخابية بعيْنها، كما في تمويل حملة حزب «فوكس» الإسباني في انتخابات عام 2014 بنحو مليون يورو. ولكن التنظيم «ليس سوى الأداة، وليس المُموّل» بحسب ما كشف أحد المنشقّين عنه، فيما أفاد آخر بأنه هو نفسه تَورّط في نقْل أموال من السعودية أثناء عهد صدام حسين برعاية جهاز الاستخبارات الذي كان يقوده آنذاك تركي الفيصل، الذي ذكر منشقّ ثالث أن معسكر ألبانيا كان بتمويل منه أيضاً. كذلك، تنشط «مجاهدي خلق» في الفضاء الاعلامي، ولا سيما مواقع التواصل، حيث تَنشر مقاطع من داخل إيران للاحتجاجات والاعتداءات على رجال الدين. وبحسب 700 صفحة من برقيات سرّية للمخابرات الإيرانية، نشرها موقع «ذا إنترسبت» عام 2020، شاركت حسابات المنظّمة، بشكل دوري، في نشْر مقاطع لمحتجّين يكتبون على الجدران شعارات مناهضة للنظام. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن «مجاهدي خلق» تسعى إلى إحداث اضطرابات من خلال عمليات إرهابية، كشفت الاستخبارات الإيرانية عن جانب منها أخيراً، كمحاولة تفجير أحد مراكز الصناعات الجوّية في أصفهان.


«ثورة» أَعلنها «الصقور»
قبل أشهر من بدء الاحتجاجات في إيران، أماط «صقور» الحزب الجمهوري اللثام عن تطلّعاتهم في هذا البلد، داعين إلى تغيير النظام بـ«ثورة جديدة». لكن تصريحات هؤلاء، سواء خلال مشاركتهم في مؤتمرات «مجاهدي خلق» أو في مقالات ومقابلات تلفزيونية وتغريدات، حملت ثقة زائدة، وبدت كما لو أنها مبنيّة على معطيات ربّما تَلمّسوها خلال زياراتهم المتكرّرة لمعسكر «أشرف 3». فبالتزامن مع احتجاجات إيرانية سابقة على الغلاء والتضخّم (سبقت الحالية بثلاثة أشهر)، قال مايك بومبيو، وزير الخارجية في عهد دونالد ترامب، لرئيسة المنظّمة مريم رجوي، خلال لقاء سبَق مؤتمر «مجاهدي خلق» السنوي الأخير، إنه «يجب أن نستمرّ في دعم الشعب... بأيّ طريقة ممكنة»، فيما أبْلغته رجوي «(أنّنا) قرّرنا الدخول في المواجهة النهائية مع النظام». من جهته، اعتبر جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، في كلمة في المؤتمر المذكور، أن الاحتجاجات تمثّل «بديلاً حقيقياً (من النظام) على أرض الواقع»، ورأى أن «السياسة المعلَنة» للولايات المتحدة «يجب أن تكون السماح للشعب الإيراني بحُكم نفسه». وشاطره الرأي رودي جولياني، محامي ترامب الذي حضر الفعالية المُشار إليها، قبل أن يجدّد حديثه في الاتّجاه نفسه، في مقابلة عبر «فوكس نيوز» قال فيها عن التنظيم: «هُم مستعدّون للدخول والعمل الصعب. يجب أن ندعمهم». وتزامَنت هذه المواقف مع عدّة توقيفات لشبكات تجسّس دخلت إيران من كردستان العراق، كانت تعمل على التحضير لاحتجاجات وزرْع متفجّرات، بحسب ما كشفت التحقيقات. ومع توسُّع الاضطرابات، كتب بولتن مقالاً في صحيفة «ذا هيل» مطلع الشهر الحالي، احتجّ فيه على صمْت إدارة بايدن، ورأى أن عليها «الضغط على إيران وليس على السعودية»، مشيراً إلى أن «الرياض والعرب الآخرين يمكنهم مساعدة المقاومة الإيرانية بفعالية، ولا سيما الأقلّيات العرقية والدينية العربية والسُنّية، وتوفير ملاذات آمنة خارج إيران للمعارضة لتنظيم نفسها والتخطيط، لتنمو وتصبح قوة حقيقية مضادّة للثورة»، مضيفاً إن مَن «سيَخلف النظام لن يبيع طائرات مسيّرة إلى روسيا».