موسكو | سارعت روسيا إلى الردّ على الهجوم الذي تعرّضت له سفنها في مدينة سيفاستوبول، على أيدي كييف، بتعليق العمل باتّفاق الحبوب الموقّع بينها وبين الأخيرة، عادّةً اختراق «الممرّ الآمن» للاتفاق خطّاً أحمر لا يمكن تجاوزه، أو استغلاله للهجوم على قواتها. وعلى مدى الأشهر الأخيرة، كان الاتفاق محلّ انتقاد من قِبَل موسكو، كونه لم يسهّل تصدير بضائعها، وسمح بوصول الحبوب الأوكرانية إلى الدول الغنية دوناً عن تلك الفقيرة. وإذ أكدت روسيا أن استهدافاً من هذا النوع «ليس مزحة»، فهي رأت أن «المبادرة» التي كانت «معلّقة على شعرة»، تحوّلت إلى اتفاق تجاري لخدمة الدول الغربية، مبديةً استعدادها للحلول محلّ أوكرانيا، والتعويض الكامل عن الحبوب، على أن تصل غالبيتها إلى البلدان الفقيرة
منذ توقيعه بين روسيا وأوكرانيا برعاية تركية وأممية، في تموز الماضي، ظَلّ اتفاق الحبوب محطّ انتقاد روسياً، كونه - أوّلاً - لم يسهّل تصدير البضائع الروسية، وسمح - ثانياً - بوصول الحبوب الأوكرانية إلى الدول الغنية من دون الدول الفقيرة، من وجهة نظرها. هذان العاملان شكّلا مؤشّرَين إلى احتمال أن تغيّر موسكو موقفها من الصفقة، وهو ما حصل بالفعل ربطاً بالهجوم الأوكراني على سفن تابعة للأسطول البحري الروسي، وسفن مدنيّة في مدينة سيفاستوبول. إذ ردّاً على هذا الاعتداء، قرّرت روسيا تعليق مشاركتها في الاتفاق، لأنها لا تستطيع «ضمان سلامة السفن المدنيّة»، وفق ما برّرته للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش. وقالت وزارة الدفاع الروسية إن المسيّرات الأوكرانية تحرّكت على طول المنطقة الأمنية لـ«ممرّ الحبوب»، متّهمةً خبراء بريطانيين بالمشاركة في الهجوم، الذي أكد الكرملين، من جهته، أنه «لن يمرّ من دون ردّ». واستناداً إلى ما تقدَّم، أفادت وزارة الدفاع بـ«تعليق مرور السفن عبر الممرّ الآمن المحدَّد بموجب مبادرة البحر الأسود»، إلى أن يتمّ «توضيح الوضع المتعلّق بالهجوم الإرهابي الذي ارتكبتْه أوكرانيا يوم 29 كانون الأول ضدّ السفن الحربية والمدنية في مدينة سيفاستوبول». ونبّهت الوزارة إلى أن «مرور السفن عبر الممرّ الآمن غير مسموح به، نظراً إلى استخدامه من قِبَل القيادة الأوكرانية وقيادة القوات المسلّحة الأوكرانية لخوض العمليات القتالية ضدّ روسيا». وفيما أوضحت أن موسكو لم تنسحب من «مبادرة البحر الأسود»، بل علّقت العمل بالاتفاق - وهو ما تطرّق إليه أيضاً الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين -، فهي أعربت عن أملها في الحصول على ضمانات من جانب الأمم المتحدة لعدم استخدام الممرّ الآمن والموانئ للعمليات العسكرية ضدّ القوات الروسية. وشدّد بوتين، بدوره، على ضرورة تأمين السفن الروسية وتلك المدنية التي تهدِّدها القوات الأوكرانية، مطالباً كييف بضمان أمنها، وقال: «هذه ليست مزحة، هناك أطنان من المتفجّرات فيها (السفن الحربية)، ونحن مَن سيتمّ اتّهامنا لو حصل شيء ما هناك».
أعلن شويغو إرسال 87 ألف عسكري إلى جبهات القتال في إطار التعبئة الجزئية


وكان موقف روسيا حاسماً لجهة عدم سماحها بمرور السفن في البحر الأسود من دون تفتيش، إذ ترى موسكو أن الممرّ صار يُستخدم لأغراض عسكرية ضدّها. ومع تكرار الاتّهامات الغربية المُوجَّهة إليها بأن من شأن قرارها المُتقدِّم أن يفاقم من حالة الجوع حول العالم، فقد جدّدت موسكو الحديث عن أنه، وفقاً لأرقام توزيع الحبوب الأوكرانية على الدول العالمية، تحوّلت «المبادرة» إلى اتفاق تجاري بحت لخدمة الدول الغربية. وفي هذا الإطار، أشار بوتين إلى أن روسيا وافقت على «عمليات إخراج الحبوب التي تمّ تنظيمها تحت ذريعة أمن الغذاء للبلدان الفقيرة، لكن وفقاً للتقديرات الأممية، تذهب 43% من الحبوب إلى تركيا، و35% إلى الاتحاد الأوروبي، فيما يصل ما نسبته 3% إلى 4% وكحدٍّ أقصى 5%، إلى البلدان الفقيرة». وعلى هذه الخلفيّة، ومنعاً لانهيار الاتفاق، تُواصل تركيا، مساعيها للتوصل إلى حلٍّ للأزمة المستجدّة، وإبقاء العمل بـ«المبادرة»، فيما تشترط روسيا تحقيق مطالبها بعدم استخدام «الممرّ الآمن» لأهداف عسكرية ضدّ قواتها، في الوقت نفسه الذي تبدي فيه استعدادها للتعويض عن الحبوب الأوكرانية، وتسليم ما يصل إلى 500 ألف طنّ من الحبوب إلى أفقر البلدان، مجّاناً، في الأشهر الأربعة المقبلة، وفق ما أعلنه وزير الزراعة، دميتري باتروشيف، معتبراً أن «صفقة الحبوب، للأسف، لم تحلّ مشاكل الدول المحتاجة، بل أدّت إلى مفاقمتها».
وتُجمِع آراء الخبراء الروس على أن تعليق العمل بالاتفاق «منطقي جدّاً»، خصوصاً أنه «تسبّب بضرر سياسي لروسيا، ولم يقدِّم أيّ فائدة اقتصادية لها». وفي هذا المجال، اعتبر رئيس مجموعة التواصل «فليانية»، نيكيتا دونتسوف، تعليق العمل بالصفقة «خطوة متّسقة ومنطقية»، لافتاً، في تصريح إلى «إكسبرت رو»، إلى أن «الجميع يفهم أن ممرّ البحر الأسود كان بالنسبة إلى روسيا بمثابة تنازل للمجتمع الدولي، وبادرة لانفتاحنا على المفاوضات مع الغرب»، واصفاً «هجمات نظام كييف على بنيتنا التحتية البحرية في سيفاستوبول تحت غطاء هذا الممرّ، بأنها خطّ أحمر». من جهته، لفت الخبير السياسي والاقتصادي، إيفان ليزان، إلى أن «مصير الصفقة كان معلّقاً على شعرة»، مضيفاً أنه «فيما امتنعت موسكو حتى اللحظة الأخيرة عن تحرّكات مفاجئة في شأن صفقة الحبوب، تَبيّن أن كييف مصرّة (على تعطيلها)، وأوصلت الأمر إلى نهايته». ورأى ليزان، في تعليق عبر قناته في «تلغرام»، إلى أن روسيا «ستحلّ محلّ أوكرانيا في السوق العالمية، وخاصة في البلدان الأفريقية. تمثّل الأسواق هناك أولوية بالنسبة إلى موسكو، لأن عدد سكّان أفريقيا سيتضاعف في الأعوام الثلاثين المقبلة».
وإلى جانب تلك الخطوة، لم يتأخّر الردّ الروسي العسكري على الهجمات الأوكرانية، إذ قصفت موسكو، أوّل من أمس، المنشآت الحيوية الأوكرانية، ما أدّى إلى انقطاع المياه والكهرباء عن مناطق واسعة في البلاد، في ما أكد بوتين أنه «ليس كلّ ما يمكننا القيام به». وتأتي هذه التطوّرات في وقت أعلن فيه وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، إرسال 87 ألف عسكري إلى جبهات القتال، من أصل 300 ألف تمّت تعبئتهم في إطار عملية التعبئة الجزئية الأخيرة.