توازياً مع إعادة تكييف استراتيجيتها على أساس استطالة الحرب، واحتمال سلوكها مسارات أكثر دراماتيكية، يبدو أن روسيا اتخذت قرارها بتعظيم تكلفة الحرب على الجانب الأوكراني، الذي يبدو مقبلاً على أوضاع أشدّ مأساوية، تهدّد بانفراط عقْد التلاحم الداخلي «الذي كان من أبرز الإنجازات التي تمّ تحقيقها في مِثل هذه الظروف الرهيبة». وعلى هذه الخلفية، بدأت تعلو الأصوات المطالبة بتقديم تصوّر لحلّ سياسي واقعي، يَفترض تخفيضاً لـ«سقف توقعات» القيادة الأوكرانية، وهو ما يُحتمل أن يجد، في مستقبل قريب، آذاناً صاغية أكثر في أوساط النخب الغربية الحاكمة، في ظلّ انعدام الثقة بقدرة الأخيرة على متابعة تمويل حرب طويلة باهظة الكلفة
تتعدّد جبهات الحرب الدولية الدائرة في أوكرانيا بين روسيا والمعسكر الغربي، وتلك الجارية على الجبهة الاقتصادية لا تقلّ أهمية عن المعارك العسكرية في تقرير مآلاتها. وقد تَلازم انفجار الأخيرة مع سلسلة إجراءات وإجراءات مضادّة اقتصادية ومالية من قِبل أفرقاء هذه الحرب، هدفت إلى تكثيف ضغوط كلّ منها على الطرف المقابل. رزمات العقوبات المشدّدة التي فُرضت على روسيا، والاتّجاه إلى فضّ الشراكات في ميدان الطاقة بينها وبين الدول الأوروبية وإيجاد مصادر بديلة للأخيرة، والسعي، الفاشل حتى الآن، لإقناع الدول المنتجة للنفط بزيادة معدّلات إنتاجها لتخفيض أسعاره، وما رافقه من وقف روسي لإمدادات الغاز عبر أنبوب «السيل الشمالي 1»، هي خطوات تندرج جميعها في إطار هذه المواجهة المستعرة على الجبهة الاقتصادية. ويأتي قرار موسكو تعليق مشاركتها في اتّفاق الحبوب، المُوقّع في إسطنبول في 22 تموز الماضي، والذي سمح حتى الآن بتصدير 9 ملايين طنّ من الحبوب من الموانئ الأوكرانية، ردّاً على هجوم بالمسيّرات على أسطولها في شبه جزيرة القرم، ليهدّد استمرار هذه الشحنات، ما سيفضي إلى تعميق أزمة الغذاء العالمية، وإلى المزيد من ارتفاع أسعاره.
ظنّت الإدارة الأميركية وحلفاؤها الغربيون أن في إمكانهم خوض مجابهة بالوكالة مع روسيا، يُستخدم فيها قسم معتبَر من آخر ما تتضمّنه ترسانتهم العسكرية من مسيّرات وصواريخ موجّهة وذخائر ذكية، والعمل على خنقها اقتصادياً، مع الحدّ من «قدراتها على الإيذاء». لكن ما اتّضح بعد حوالي 8 أشهر من النزاع، هو أن روسيا أعادت تكييف استراتيجيتها، واعتمدت خيار الحرب الطويلة الذي لا يستثني احتمال تصعيد كبير في مستوى المواجهة أو احتمال توسّعها، وأنها تبرع في استخدام الأداة الاقتصادية كسلاح لتعظيم الأكلاف على أعدائها. ربّما بات من الضروري، كما تنصح إيما أشفورد، الباحثة الرئيسة في مركز «ستيمسون» الأميركي، في مقال على موقع «فورين أفيرز» بعنوان «حرب أوكرانيا ستنتهي بمفاوضات»، أن تطرح إدارة جو بايدن اقتراحاً لتسوية سلمية للنزاع. ووفقاً لأشفورد، فإن مقاربة الإدارة قامت على تأمين كلّ سبل الدعم للأوكرانيين، وتركت لهم وحدهم مسألة تحديد شروط نهاية الحرب والتسوية السياسية، انطلاقاً من مبرّرات «أخلاقية». غير أن أكلافها المتنامية بشكل سريع، والمرشّحة للمزيد من الارتفاع، ليس بالنسبة للأوكرانيين وحدهم، بل كذلك للأوروبيين، والأخطر، إمكانية اتّساع دائرتها، وتحوّلها إلى مجابهة نووية، ينبغي أن يدفعا التحالف الغربي إلى تقديم تصوّر لحلّ سياسي واقعي، يَفترض تخفيضاً لـ«سقف توقعات» القيادة الأوكرانية. وتعتقد الباحثة أن الحديث عن استعادة سيطرة أوكرانيا على القرم أو الدونباس يعطّل أيّ إمكانية لمثل هذا الحلّ، ويفتح الباب أمام احتدام الحرب. خبير آخر، هو غراهام أليسون، المساعد الأسبق لوزير الدفاع الأميركي في عهد بيل كلينتون، اعتبر في مقابلة نشرت على موقع «راشا ماترز»، أن أوان خفض التصعيد، والبحث عن التسوية قد آن، وأن أيّ قيادة سياسية روسية، مع فلاديمير بوتين أو من دونه، لن تَقبل بحلّ يشترط التنازل عن القرم. ولا شكّ في أن مِثل هذه النصائح «الواقعية» ترتبط بإدراك أصحابها حقيقة أن القيادة الروسية بحوزتها الكثير من أوراق القوة التي تستطيع اللجوء إليها، مع ما سيترتّب على ذلك من أثمان باهظة بالنسبة للجبهة المقابلة.
من غير المؤكد أن الأطراف الأوروبية ستستطيع متابعة تمويل حرب طويلة باهظة الكلفة


القصف الروسي المتكرّر للبُنى التحتية الأوكرانية، والذي استهدف مراكز السيطرة والتحكّم في كييف، وكذلك محطّات الكهرباء وتوزيع المياه ومخازن الوقود، لا يرمي فقط إلى شلّ القدرات العسكرية للطرف الأوكراني، وإلى مضاعفة الضغوط على السكّان. غايته أيضاً، بحسب آدم توز، المؤرّخ الاقتصادي، في مقال على مدوّنته، هو التسبّب بأزمة سياسية واجتماعية داخلية في هذا البلد الذي انهارت قدراته المالية تماماً. يقول توز بأن «الغزو الروسي وجّه ضربة مدمّرة إلى اقتصاد أوكرانيا وماليتها العامة، وبأن معدّلات التضخّم ترتفع بوتيرة صاروخية، ما يهدّد ملايين الأوكرانيين بالإفقار المدقع... سيواجه الملايين شتاء جليدياً مع نوافذ وأبواب محطّمة. ومن دون مضاعفة دراماتيكية للمساعدات المالية الدولية، فإن أوكرانيا ستجد نفسها أمام الخيار المأساوي بالمضيّ في الحرب، مع تزايد احتمال اندلاع أزمة اقتصادية واجتماعية داخلية تزعزع وحدة جبهتها الداخلية. أمام مثل هذا المأزق، الخطر هو أن يتصاعد التوتر الراهن حول سياسة معدّلات الفائدة بين البنك المركزي والحكومة الأوكرانية، ويتحوّل إلى انقسام سياسي عميق حول كيفية إدارة الحرب ومترتّباتها. سينجم عن ذلك تهديد لتلاحم الجبهة الداخلية الذي كان من أبرز الإنجازات التي تمّ تحقيقها في مِثل هذه الظروف الرهيبة». بكلام آخر، فإن إلحاق الأضرار الفادحة بالاقتصاد الأوكراني أصبح هدفاً بذاته لكسر الإجماع الداخلي في هذا البلد حول سياسة الحرب بالوكالة ضدّ روسيا.
في المقابل، فإن تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي كان محدوداً، وأقلّ من المتوقّع. يقرّ عدد من الخبراء الغربيين، كأغات دوماريه، الملحقة التجارية السابقة في السفارة الفرنسية في موسكو، بهذا الواقع. هي تشير في مقابلة مع «لوموند» إلى أن «البنك المركزي الروسي نجح في السيطرة على حالة الاضطراب المالي التي سادت في بداية الحرب. هو اضطرّ لفرض سياسة تحكّم حازمة بالرساميل. وقد وجدت روسيا أسواقاً بديلة عن تلك الأوروبية لصادراتها من النفط، غير أن ذلك لم يكن ممكناً بالنسبة للغاز لأن الأنابيب التي تربط بينها وبين الصين غير كافية لضخّ الكميات التي كانت تُصدَّر لأوروبا. أمّا في مجال أشباه الموصلات، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على معطيات أكيدة، فإن هناك تسريبات عن استيرادها إياها عبر تركيا وصربيا». ولا شك في أن الارتفاع الهائل لأسعار صادرات الطاقة طوال العام الجاري سمح لروسيا بزيادة عائداتها المالية، ومنَحها قدرة على الاستمرار في تمويل مجهودها الحربي. هي تستطيع في الظروف الراهنة اتّباع استراتيجية الحرب الطويلة واحتمال تداعياتها. من غير المؤكد أن الطرف الأوكراني قادر على ذلك. من غير المؤكد أيضاً أن الأطراف الأوروبية ستستطيع متابعة تمويل حرب طويلة باهظة الكلفة، بخاصة إذا اتّسعت الاحتجاجات الاجتماعية المتزايدة في بلدانها، والمرتبطة جميعها بمفاعيل هذه الحرب من تضخّم وكساد وتدهور في مستويات معيشة السكان. النصائح بضرورة البحث عن تسوية تفاوضية مع روسيا قد تجد في مستقبل قريب آذاناً صاغية أكثر في أوساط نخبها الحاكمة.