منذ بداية حقبة الانفتاح الصيني، والنهاية المأساوية لـ«المعسكر الاشتراكي»، رحّبت دول المنظومة الغربية بعمليات التحرير الاقتصادي، وسياسات «اللبرلة» على الجانب الآخر من العالم. ومنذ ذلك الوقت، سادت الرهانات على أن هذا النهج الاقتصادي الجديد في دولٍ كانت حتى الأمس القريب تُناصب الغرب العداء، كالصين، سيشكّل قوّة دافعة لـ«الديموقراطية» فيها، وسيسهّل تحقيق الأرباح للشركات الغربية في «عالم أكثر سلاماً»، كما سيدفع «الدولة الشيوعية» نحو تحمّل مسؤوليات دولية أكبر، وفق ما تشتهي واشنطن. وبالفعل، شهدت حقبة التسعينيات انطلاق قطار العولمة، وتزايُد حجم التبادلات التجارية على المستوى الدولي، بالتزامن مع ارتفاع تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر بمقدار ستّة أضعاف، فضلاً عن تضاعف الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بين عامَي 1985 و 2015 بمقدار 125 ضعفاً. وعلى رغم القفزات الاقتصادية النوعية على مستوى النظام الدولي المعولم، فقد تعرّض النظام المذكور لجملة انتكاسات في الأعوام الأخيرة، لعلّ أبرزها كان بفعل الأزمة المالية العالمية عام 2009، إضافة إلى الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ضدّ الصين، وصولاً إلى العراقيل التي فرضتها أزمة وباء «كورونا» على الاقتصاد العالمي. وعلى إثر تلك التطوّرات، انخفض حجم التبادلات التجارية من الناتج الإجمالي العالمي، بين عامَي 2008 و2019، بخمس نقاط مئوية، فيما عادت دول عدّة إلى تبنّي الحمائية التجارية. وفي حين عكفت الولايات المتحدة، خلال الأعوام الأخيرة، على وقف تشجيع الاستثمارات الأميركية على شراء الأسهم الصينية، فقد انخفض مستوى الاستثمارات الصينية، بدوره، داخل الولايات المتحدة إلى 400 مليون دولار أخيراً، ليسجّل انخفاضاً بنسبة 60 في المئة عمّا كان عليه قبل عامَين. ومع ذلك، تذهب العديد من الدراسات الأميركية إلى أن مظاهر الابتعاد عن مسار العولمة، تحمل تكاليف باهظة في بعض الأحيان، وأن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة دفعت الشركات الأميركية ثمنها.
في هذا المجال، تستعرض منظّمة «Our World in Data» الواقع السياسي الراهن لِمَا يحلو لمراقبين تسميته «عصر ما بعد العولمة»، مشيرة إلى أن الاتجاهات السائدة لدى الدول الكبرى التي تتبع اقتصاد السوق، تشي بتضاؤل بريق الديموقراطيات الليبرالية. في المقابل، تشير تقارير صادرة عن «البنك الدولي»، إلى أن حصّة «الأنظمة السلطوية المغلَقة»، وفي طليعتها الصين، باتت تشكّل 30 في المئة من الاقتصاد العالمي، أي ضِعف ما كانت تمثّله خلال فترة الحرب الباردة. فمن الناحية الاقتصادية، تُعدّ الصين اليوم أكبر اقتصاد في عداد الدول المصنَّفة غربياً ضمن «الدول السلطوية»، حيث تشير بعض التقارير الغربية إلى أن قيمة ناتجها المحلّي تُوازي ثلثَي الناتج المحلّي للولايات المتحدة. وعلى الصعيد التقني والتكنولوجي، باتت «الأنظمة السلطوية» منافِساً جدّياً للديموقراطيات الغربية في الاستثمارات وتمويل البحث العلمي والابتكار. ففي حين بلغ إجمالي قيمة الاستثمارات الغربية عام 2020 نحو 12 تريليون دولار، ناهزت قيمة استثمارات تلك الأنظمة في مجالات التصنيع والبُنى التحتية خلال العام نفسه 9 تريليونات دولار. وبخصوص تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر، فاق حجمها في اتّجاه الدول المعادية للمعسكر الليبرالي، بخاصة الصين، حجم ما تلقّته دول المعسكر المذكور بين عامَي 2018 و2020. وعن براءات الاختراع، يُحسب للجبهة المعادية للغرب ارتفاع معدّلات تسجيل براءات الاختراع بين عامَي 1995 و2015 من نسبة لا تتعدّى 5 في المئة على الصعيد العالمي، إلى أكثر من 60 في المئة، معظمها في الصين.
تُواجه الصين صعوبة في الابتعاد كلّياً عن النظام الاقتصادي المعولم


أكثر من ذلك، حافظت الدول المحسوبة على المحور المناهض الغرب على أنظمتها السياسية، على رغم اندماجها وفق ظروف كلّ منها، مع ظاهرة العولمة، والاعتماد المتبادل على المستوى الاقتصادي. فالصين فتحت أسواقها المحلّية بما يناسبها، ذلك أن نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلّي فيها قاربت 39 في المئة، في بعض القطاعات التكنولوجية؛ فيما حظرت هذا الانفتاح على قطاعات اقتصادية معيّنة محلّية أبْقتها ضمن دائرة التأميم بنسبة كبيرة، كقطاع النفط الذي تتولّاه شركة «سينوبيك»، إلى جانب ثلاث شركات أخرى مملوكة للدولة. فضلاً عن ذلك، تُشكّل الصين صلة وصْل محورية على خطّ سلاسل التوريد العالمية، بفضْل موقعها الجغرافي المميّز، كما أنها باتت تستحوذ على نسبة وازنة من احتياطي العملات الأجنبية العائدة إلى «الدول السلطوية» التي تفوق قيمتها 7 تريليونات دولار، حصّة بكين منها تُقدَّر بنحو 3.1 تريليون دولار. كذلك، شرعت الصين في الترويج لاستخدام اليوان في المبادلات التجارية الدولية، بدءاً من عام 2010، من خلال إبرام اتفاقيات مع بنوك مركزية عالمية. ومنذ مطلع العام الجاري، كان التطوّر الأبرز من خلال بدء شراء الغاز من روسيا بالعملة المحلّية، إضافة إلى الدفع لإصدار عملية وطنية رقمية.
وإذا كانت للدول الغربية مخاوفها الخاصة حيال متطلّبات الانفتاح التجاري الذي تستلزمه العولمة، لأسباب تتعلّق بالأمن القومي، وعدم الرغبة في تشارُك منتَجات ذات طابع أمني، أو تلافياً لإقامة علاقات اقتصادية مع دول يُزعم انتهاكها لحقوق الإنسان، فإن للأنظمة المعادية للغرب بدورها، لا سيما الصين، هواجسها الخاصة من المسألة عينها، وإنْ لأسباب مختلفة قد تتعلّق بما يترتّب على العولمة من تسرّب الأفكار الغربية المستورَدة إلى البيئة الداخلية للبلاد. عامل آخر تتخوّف منه الصين، في مقاربتها لفوائد العولمة ومخاطرها، وهي أن فكرة الاندماج في النظام الاقتصادي الدولي سوف يجعلها عرضة للعقوبات من جانب الطرف المهيمن على هذا النظام: الولايات المتحدة. وبفضْل العقوبات التي فرضتْها إدارة الرئيس الأميركي السابق على شركة «هواوي» الصينية، لمزاعم تتّصل بسرقة الملكية الفكرية، تضاءل حجم التدفّقات الاستثمارية المباشرة بين الصين والولايات المتحدة إلى حدود 5 مليارات دولار سنوياً، بعدما كان يلامس حدود 30 مليار دولار.
وبدافع هذا الخوف من العوارض الجانبية للعولمة، بدأت قوى إقليمية ودولية عدّة، من بينها الصين، تميل إلى التمرّد على آليات عمل النظام الاقتصادي الدولي الذي ترعاه واشنطن، والاتّجاه نحو تأسيس منتديات سياسية واقتصادية ذات طابع إقليمي أضيق، أو التحوّل بعيداً عن الدولار. ففي عام 2020، أبرمت بكين اتفاقية تجارية مع 14 دولة آسيوية أخرى، لتصبح أكبر شريك تجاري لتلك الدول بدلاً من الاتحاد الأوروبي. وبالتوازي مع بقاء مستويات الاستثمار الأجنبي من قِبَل بعض دول العالم الثالث الغنّية، كدول الخليج، داخل السوق الأميركية، من دون تغيير يُذكر خلال عام 2020، فقد شهدت معدّلاتها داخل السوق الصينية ارتفاعاً بمقدار الخُمس، فيما زادت معدّلاتها داخل السوق الهندية بنسبة 29 في المئة، في وقت كشفت فيه تقارير أميركية عن مساعٍ سعودية لبيع النفط إلى بكين بالعملة الصينية.
في المقابل، تُواجه الصين صعوبة في الابتعاد كلّياً عن النظام الاقتصادي المعولم. فحتى الآن، لا تزال معظم البلدان التي تربطها بالصين علاقات اقتصادية، ذات ميول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وألمانيا. وخلال فترة حُكم الرئيس الصيني الحالي، تشي جين بينغ، أصبحت الاقتصادات الغربية أكثر تشابكاً مع الاقتصاد الصيني، حيث سجّلت الاستثمارات الألمانية داخل الصين زيادة مضاعفة. كما أنه لا تزال صناعات التصدير الصينية تعتمد بشكل كبير على الطلب الغربي، وهي عرضة للتأثّر بالأسواق المالية لمجموعة «G-7». وفي خضمّ هذه المنافسة الأميركية - الصينية تحت سقف العولمة، تتّجه إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تشجيع الإنتاج والصناعات المحلّية، تحت شعار الحفاظ على «مرونة سلاسل التوريد»، فيما دشّنت الصين استراتيجية «دورة الإنتاج المزدوجة» بهدف التقليل من الاعتماد على المورّدين الخارجيين، وتحرير صناعاتها من الارتهان للخارج، لا سيما على صعيد صناعة الرقائق الإلكترونية. وهنا، عقدة أخرى في المعركة الدائرة بين الولايات المتحدة والصين على الصورة التي تتبلور يوماً بعد يوم لنظام ما بعد العولمة.