عادت مسألة الحجاب في تركيا لتكون طبقاً شهيّاً على مائدة السياسة والسياسيين، بعدما خبَت لسنوات ظُنّ خلالها أن هذه المسألة، التي استهلكت الكثير من الجدل في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات والسنوات العشر الأوائل من عهد «حزب العدالة والتنمية»، قد عادت إلى موقعها الطبيعي قضيّةً دينية - اجتماعية بحتة. لكن النقاش الذي قام من بين القبور خلال الأيام الماضية، على خلفية اقتراح «حزب الشعب الجمهوري» العلماني المعارض سَنّ قانون يثبّت حق ارتداء الحجاب، أظهر أن المسألة لا تزال سياسية بامتياز، بل ويَجري استغلالها اليوم في إطار الصراع الانتخابي، الذي يريد الحزب المذكور اجتذاب جزء من جمهور خصمه الإسلامي في خضمّه
تُعتبر مسألة الحجاب العنوان الأكبر للصراع بين العلمانيين والإسلاميين في تركيا، منذ اعتماد العلمنة في جمهورية أتاتورك الحديثة، حيث كان على النساء في الوظائف العامّة الرسمية والجامعات والمدارس ألّا يرتدين الحجاب تحت طائلة المسؤولية. لكن المشكلة بدأت تأخذ حيّزاً من انشغالات الجمهورية منذ السبعينيات، مع منْع بعض الطالبات المحجّبات من دخول الجامعات، قبل أن تتحوّل إلى مادّة يتجاذبها التّياران المتصارعان، خصوصاً على مسرح الجامعات، والذي كانت تعاميم مجلس التعليم العالي بخصوصه، تتغيّر تبعاً لتَغيّر الأحزاب المُمسِكة بالسلطة، فتسمح بالحجاب أحياناً وتمنعه أحياناً أخرى. وفي منتصف التسعينيات، ازدادت أهمّية هذه المسألة مع إدلاء نجم الدين أربكان، رئيس «حزب الرفاه»، والذي شَغل أيضاً رئاسة الحكومة بين عامَي 1996 و1997، بتصريح قال فيه إن على الجنرال العسكري أن يلقي التحيّة على المرأة المحّجبة في حال مرّت أمامه، ليستثير بذلك غضب العسكر، الذي سارع إلى الإطاحة بالرجل في «انقلاب أبيض» في 28 شباط 1997، ليظلّ أربكان صامداً حتى حزيران من العام نفسه، ثمّ يجبَر على الاستقالة من رئاسة الوزراء. ودخل أمين عام مجلس الأمن القومي حينها، تونجير كيليتش، على الخطّ آنذاك، ليقول إن ارتداء الحجاب ليس فرضاً دينياً، بل هو زيّ ترتديه النساء الأناضوليات نتيجة العوامل المناخية والأعمال في الزراعة.
مذّاك، غرقت تركيا في مسألة الحجاب التي استغلّها الزعماء الإسلاميون للظهور بمظهر الضحيّة. ولعلّ من أشهر الحوادث المتّصلة بهذا الشأن، فوز مروة قاواقجي بمقعد نيابي عن «حزب السعادة»، الذي ورث «حزب الرفاه»، في انتخابات عام 1999. إذ إن نواب حزب «اليسار الديموقراطي» الحاكم حينها، وعلى رأسهم بولنت أجاويد، عمدوا إلى الطرْق على الطاولات في البرلمان أثناء دخول قاواقجي إلى القاعة بحماية النائبة عن «السعادة» العلماني، نازلي إيليجاق، فيما أطلق أجاويد عبارته الشهيرة: «ضعوا حدّاً لهذه المرأة»، قبل أن تُمسك إيليجاق بِيَد زميلتها وتَخرجا معاً من القاعة. ومِن بعدها، رُفعت دعوى على قاواقجي بذريعة أنها كانت تحوز الجنسية الأميركية ولم تصرّح عن ذلك مسبقاً، ليُسقط القضاء نيابتها.
وشكّلت قضية الحجاب واحداً من أسباب نجاح «حزب العدالة والتنمية» في انتخابات عام 2002. لكن وصول الحزب بزعامة رجب طيب إردوغان إلى السلطة بمفرده، لم يكن كافياً لتجد المشكلة حلّاً لها. فقد وقف رئيس الجمهورية آنذاك، أحمد نجدت سيزير، سدّاً عالياً أمام محاولات السماح للطالبات بارتداء الحجاب داخل الجامعات أو المؤسّسات الرسمية، فيما منع حتى زوجتَي رئيسَي الحكومة عبد الله غول وإردوغان من المشاركة في الاحتفالات الرسمية في القصر الجمهوري. وكان سيزير يقول إنه ممنوع ارتداء الحجاب في الأماكن العامّة، وحين سئل عن مفهومه للمكان العام، أجاب: «حيث أكون أنا، يكون المكان عامّاً». ووقفت المؤسّسة العسكرية، بمواقفها المتشدّدة كونها «حارسة العلمانية»، هي الأخرى، حجر عثرة دون تفكيك عُقد هذه القضية. لكن وصول الإسلاميين إلى السلطة بكلّ مواقعها، وكسْر نفوذ العسكر في السياسة باستفتاء عام 2010، فتح المجال واسعاً لحلحلة الأزمة. إذ تَحرّرت المرأة، بعد معاناة طويلة، من أغلال نزع الحجاب على أبواب الجامعات والمؤسّسات الرسمية والمدارس وحتى بعض الأسلاك الأمنية والعسكرية، بل أصبحت مروة قاواقجي أوّل سفيرة محجّبة لبلادها في ماليزيا عام 2017، فيما بات أمراً اعتيادياً وجود محجّبات وزيرات ونائبات وما إلى ذلك.
كيليتشدار أوغلو، سواءً تَرشّح هو أو غيره، يريد أن يكسب بعض جمهور «العدالة والتنمية»


اليوم يأتي كيليتشدار أوغلو ليوقظ «الشياطين» من سُباتها. فمساء الإثنين الماضي، اقترح الرجل، عبر تغريدة، تثبيت حق المرأة والموظفة والطالبة الجامعية وجميع النساء في ارتداء الحجاب في كلّ المؤسّسات وفي أيّ مكان، من خلال تقديم مشروع قانون يُسنّ في البرلمان. وفاجأ هذا الاقتراح الرئيس إردوغان، لكن الأخير بدا كَمَن عثر على كنز مدفون، إذ زايَد على الأوّل بقوله إنه مع تثبيت هذا الحق، ليس في القانون فحسب، بل في الدستور نفسه. وبينما ظنّ إردوغان انه سدّد «ضربة قاضية» إلى خصمه العلماني، فقد عاد كيليتشدار أوغلو لينقضّ عليه بالقول إنه إذا كان لا بدّ من إدراج قضية الحجاب في الدستور، فَلْنُدرج في بند واحد قضية الحريات بكلّ أشكالها، ومن ضمنها حرية ارتداء الحجاب، وأيضاً حرية الأقليات - وفي مقدّمهم العلويون - في المعتقد والممارسة وحق الاستفادة من موارد الدولة.
وهكذا، عادت مناقشات الحجاب إلى الساحة السياسية، لتؤكّد مرّة أخرى أن قضية متّصلة بالحريات الشخصية ولا تحتاج لا إلى قانون ولا إلى بند في الدستور، هي قضية سياسية بامتياز، شأنها شأن الكثير من القضايا التي لم ترغب العلمانية في تركيا في إيجاد حلّ لها، تماماً كما لم يَشَأ الإسلاميون معالجة قضايا أخرى مِن مِثل حقوق العلويين في المساواة في المواطنية مع أتباع المذهب السُنّي، حيث تحظى رئاسة الشؤون الدينية الخاصة بالسُنّة بميزانية هائلة تفوق ميزانية عدّة وزارات مجتمعةً، فيما لا يُعترف بالعلويين كمذهب مستقلّ، ولا بأماكن عبادتهم ولا بميزانية من الدولة. على أن المثير في «العاصفة الجديدة» أن رائحة الانتخابات تفوح بقوّة منها، إذ إن كيليتشدار أوغلو، سواءً تَرشّح هو أو غيره، يريد أن يكسب بعض جمهور ينتمي إلى «حزب العدالة والتنمية»، بينما إردوغان يريد أن يزايد على خصمه ويمنعه من تحقيق انتصار بالنقاط في هذه المرحلة.
وعلى ما يبدو، فإن ما كان يعتقده الأوّل «ربحاً صافياً باليد» انقلب عليه، لكن ليس بالضرورة لمصلحة الأخير الذي لا يزال يرفض إدراج حقوق العلويين في البند الدستوري. وعلى الأرجح، قد تنتهي المعركة إلى «خاسر- خاسر». ذلك أن كيليتشدار أوغلو، باقتراحه تشريع الحجاب بقانون، استثار أوساطاً علمانية كثيرة ترى في حشْر قضية دينية في دستور علماني، أمراً لا موجب له، بل وسبباً في تجويف العلمانية من مضمونها، بل إن بعض العلمانيين وصفوه بـ«العار» وبأنه «تمريرة خاطئة» إلى اللاعب الخصم، وهو ما دفع إردوغان إلى استغلاله، والقول إنه إذا خرج من السلطة سيعود ظلم المحجّبات. وهكذا، ربّما ينقلب الأمر على كيليتشدار أوغلو، فتتراجع حظوظه في أن يكون مرشّح المعارضة للرئاسة، باعتباره أظهر «انتهازية واستغلالاً للدين»، شأنه شأن إردوغان الذي يستثير النزعات المذهبية ضدّ العلويين لكسب بعض الأصوات الإضافية من السُنّة. وبالنتيجة، فإن الخاسر الأكبر من هذه المعركة، لن يكون إلّا تركيا.