تتكاثف المؤشرات في اتّجاه ترجيح عودة الزعيم «العمّالي»، لويس إيناسو لولا دا سيلفا، إلى واجهة المشهد البرازيلي، بعد غياب قسري دام أربع سنوات، جرّبت فيها عاصمة القرار اللاتيني، برازيليا، كلّ صنوف الترهُّل. فاندفاعة الرئيس الحالي، جايير بولسنارو، لم تكن من النوع الذي يمكن وقفه أو تحييده، إذ هو لم يترك سيّئة إلّا اقترفها: من المكائد إلى التآمر والارتزاق، وتطويع القضاء، حتى بلغ الأمر بأنصاره الذين لا يفتأون يتناقصون، إلى استدعاء «انقلاب عسكري» يمكنه وحده منْع عودة اليسار إلى السلطة. ولم تأتِ هذه الدعوات التي تُقلق «العمّاليين» إلّا استكمالاً لسلسلة مواقف أطلقها بولسنارو نفسه، فيما لا تخفي المؤسسة العسكرية تناقضاتها الاستراتيجية مع الإدارات «العمّالية». مع هذا، يضيق هامش المناورة أمام الطرف الآخر، الذي يستعدّ لتسليم بلدٍ لا يشبه - بفعل عوامل كثيرة يتقدّمها سوء إدارة الأزمة الصحية ونسب التضخّم الفلكيّة - ما كان عليه قبل أربع سنوات
أسابيع قليلة تفصل البرازيل عن أكبر النزالات السياسية، المتمثّل في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في الثاني من شهر تشرين الأول المقبل، ويتنافس على خوضها ستّة مرشّحين يتصدّرهم الزعيم «العمّالي»، لويس إيناسو لولا دا سيلفا، والرئيس الحالي، جايير بولسُنارو. وانحصر التنافُس بين هؤلاء بعد انسحاب القاضي سيرجيو مورو المتورّط في ملفّات فساد، أبرزها تجيير سلطته القضائية لتصفية حسابات سياسية استهدفت حزب «العمّال» وزعيمه دا سيلفا، فضلاً عن خروج حاكم ولاية ساوباولو السابق، جواو دوريا، الذي أعلن أنه نادم على تحالفه مع اليمين المتطرّف في الانتخابات الماضية، معتبراً أن لولا دا سيلفا «مرشّح محترَم ولديه سجلّات إيجابية وهو لا يشبه بأيّ حال الرئيس الحالي الذي قاد البرازيل إلى الهاوية». وعلى الرغم من تأكيد استطلاعات الرأي المحايِدة أرجحيّة مطلقة لفوز دا سيلفا الذي حصد 45% من الأصوات، مقابل ثاني المتصدّرين جايير بولسنارو بنسبة 32%، إلّا أن «العمّاليين» يتعاطون بحذر مع ما يسمّونه «أحداث الساعات الأخيرة»، وهم الذين خَبِروا تقنية قلْب الطاولة التي أطاحت مرشّحهم دا سيلفا في الانتخابات الماضية، ما اضطرّهم إلى مواجهة تكتّل اليمين المدعوم من واشنطن. وقد سخّرت الولايات المتحدة آنذاك كلّ نفوذها القضائي والأمني لتشريع الباب أمام اليمين المتطرّف الذي أقصى حزب «العمّال» ومرشّحه البديل فرناندو حداد، تحت وابل من الحملات الدعائية التي تَورّطت فيها كبرى وسائل الإعلام البرازيلية، وروّج لها عدد من رجال الدين المتطرّفين الذين وصلوا إلى حدّ شيْطنة اليسار البرازيلي.
قلق «العمّاليين» يبدو مبرَّراً مع ارتفاع ملحوظ في نسب الشعارات المعادية للديموقراطية، والتي أطلقها أنصار بولسنارو خلال احتفالية عيد الاستقلال في السابع من أيلول الحالي، حيث طالبوا بحُكم عسكري وإطاحة العملية الانتخابية التي قد تعيد اليسار إلى إدارة البلاد. وبدا هذا الخطاب منسجماً مع سلسلة مواقف كان قد أطلقها بولسنارو، هاجم فيها المؤسّسات القضائية، وهدّد بالتمرّد على قراراتها، كما شنّ حملةً ممنهجة على المحكمة الخاصة بالشؤون الانتخابية، داعياً إلى إلغاء التصويت الإلكتروني واعتماد التصويت التقليدي. على أن مواقف بولسنارو وأنصاره، على خطورتها، لا تَظهر العامل الأبرز في ما وراء المخاوف «العمّالية»، بل يتقدّم عليها موقف المؤسّسات الصامتة التي تتحكّم بجزء من خيوط اللعبة، وأهمّها المؤسسة العسكرية التي لا تَخفي تناقضاتها الاستراتيجية مع الإدارات «العمّالية»، على الرغم من وعودها بعدم التدخّل في المسار الانتخابي المقبل، وجهوزيّتها للتعاطي مع أيّ حكومة تُفرزها الإرادة الشعبية. لكن السجال الذي أحدثه خطاب دا سيلفا في ساوباولو الشهر الماضي، والذي تحدّث فيه عن سلطة الحكومة على السياسة الخارجية والمؤسّسة العسكرية وكلّ المؤسّسات الحكومية، يشي بأن التناقض بين الطرفَين ما زال على حاله، وخصوصاً بعد ردٍّ من مصادر عليا في الجيش البرازيلي عبر صحيفة «فوليا دي ساوباولو»، اتّهمت فيه دا سيلفا بعدم الفهم الصحيح لمصطلح «مؤسّسة الدولة»، معتبرة أن من غير الصحيح أن المؤسسة العسكرية وُجدت لتنفيذ رغبات الحكومة.
عبّدت سياسة اليمين المتطرّف الطرق أمام عودة اليسار إلى إدارة البرازيل


على أن تحدّيات المعركة الحالية لحزب «العمّال» - على أهميّتها - لا ترقى إلى مستوى التحدّيات السابقة، حيث إن الظروف التي حَكَمت تلك المرحلة قد تداعى القسم الأكبر منها. وعليه، بات فوز «العمّاليين» شبه محسوم، فيما يدور النقاش حول إمكانيّة الانتصار في الجولة الأولى، أم أن الحسابات الانتخابية قد تؤجّل الفوز إلى الجولة الثانية. ومن هنا، يمكن ذكر أبرز التحوّلات التي أَفقدت خصوم اليسار البرازيلي هامش المناورة وتكرار سيناريو انتخابات عام 2017:
1- التلاعب القضائي في قضيّة دا سيلفا وبراءته من التّهم المنسوبة إليه، وسقوط القاضي سيرجيو مورو بالضربة القاضية بعد نشر تسجيلات تؤكد تورّطه في فبركة ملفّ الزعيم «العمّالي» واتصالاته مع أجهزة استخبارات خارجية لتنسيق المواقف وتسييلها في العملية السياسية الداخلية، وفضيحة تقاضيه مبالغ مالية طائلة مقابل تجيير سلطته القضائية لمصلحة شركة «مارسيل وألفاريز»، ما استدعى انسحابه من السباق الانتخابي بعد الانخفاض الكبير في نسبة التأييد له.
2- فشل الإدارة «البولسنارية» في تنفيذ الوعود الانتخابية التي رسمت أحلاماً ورديّة للبرازيليين الذين ما لبثوا أن استفاقوا على كابوس اجتماعي واقتصادي وحصيلة مرعبة من الضحايا بلغت 684 ألف حالة وفاة بسبب سوء إدارة وباء «كورونا»، والتأخير في تسلُّم اللقاحات التي كان يمكن أن تنقذ ما يقارب من نصف الوفيات، وفق ما تبيّنه الدراسات. على المستوى الاقتصادي، فقد تراجعت البرازيل بشكل قياسي في مسيرتها التنموية، بحسب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» الصادر عن «صندوق النقد الدولي»، حيث تمّ تصنيفها في المرتبة 180 من أصل 193 بالنسبة إلى نموّ الدخل الفردي الذي لا يشكّل ثلث المعدّل الوسطي العالمي، بينما جاء تصنيف نموّ الاستثمار الداخلي ليزيد الأمور تعقيداً، مع حلول البرازيل في المرتبة 147 من مجموع 170 دولة. وتعدّ نسبة التضخّم في هذا البلد هي الأعلى منذ عام 1994، وهو ما أدّى إلى ارتفاع نِسب البطالة والفقر المدقع التي وصلت إلى 23.7% بعد انخفاض وصل إلى 1.1% في عهد الرئيس الأسبق دا سيلفا. ويُسجَّل لحكومة بولسنارو أيضاً، افتقارها إلى سياسات تأمين المواد الغذائية الأساسية التي شهدت ارتفاعاً جنونيّاً في أسعارها. أمّا على مستوى مكافحة الفساد، فَلَم يُسجَّل، في عهد بولسنارو أيّ تقدم ملموس، بل إن رائحة الفساد فاحت من داخل أروقة منزل الرئيس نفسه بعد الاتهامات التي طالت نجلَيْه فلافيو وإدواردو، وصلت إلى حدّ اتّهام الأول بتأسيس عصابة إجرامية متخصّصة في غسل الأموال.
3- تضرُّر البرازيل في علاقاتها الخارجية من خلال حصرية العلاقة مع الولايات المتحدة وإهمال الإرث الكبير في العلاقات الدولية، وخصوصاً مع دول «البريكس» التي تضم إلى البرازيل، الصين، والهند، وروسيا وجنوب أفريقيا. كما شكَّلت نظرة بولسنارو إلى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، كمثلٍ أعلى له، ضربةً قاسمة لبرازيليا حتى بالنسبة إلى واشنطن نفسها التي رأت في بولسنارو شخصاً متهوّراً لا يحمل أيّ مشروع سياسي حقيقي، فضلاً عن مسؤوليته في الأضرار البيئية التي تُلحق الأذى بالعالم. وعليه، لم يَفلح الرئيس البرازيلي في عقْد الشراكات الاقتصادية مع الأميركيين، ولم يستطع حتى تلميع صورته داخل المجتمع الأميركي. ويضاف إلى ما سبق، الأزمات التي افتعلها مع الدول الأوروبية، والتي أدّت إلى نبْذه خلال لقاءات جمعته إلى نظرائه الأوروبيين. وليس هذا فحسب؛ فبولسنارو، ونظراً إلى تأثّره الشديد بترامب، بالغ في امتداح إسرائيل، ووعد بنقْل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. وعلى الرغم من عجزه عن اتّخاذ مثل هذه الخطوة، إلا أنّ أداءه السياسي أَفقد البرازيل موقعها المهمّ، أي تمايزها عن دول الغرب المهيمنة وتقاربها مع القضايا الإنسانية في العالم. أما في العلاقة مع الصين، فكاد بولسنارو أن يتسبّب بأزمة كارثية معها عبّرت عنها تصريحات غير محسوبة تدخلت على إثرها الجهات الاقتصادية، وهو ما حَمَلَه على التراجع عن سياساته العدائية مع بكين التي ضاعفت استثماراتها في البرازيل خلال العامين الأخيرين، لتصل إلى حوالي ستة مليارات دولار العام الماضي، مقارنة مع ثلاثة مليارات دولار عام 2018. ويُعدّ سياق العلاقات معاكساً لشعارات الحملة الانتخابية لبولسنارو، والتي أعلن فيها أن البرازيل ستقفل أبوابها أمام من سمّاهم الدول «غير الديموقراطية».
في العلاقات الإقليمية، شهد عهد بولسنارو أفولاً للنفوذ البرازيلي، وصل بعض الأحيان إلى عداء مع دول الجوار. ومن أبرز الأزمات التي عايشها، مشاركة حكومته في محاصرة فنزويلا وتأييد مطلق للسياسات الأميركية تجاه البلد الجار، كما لاقت تصريحات الرئيس البرازيلي المناهضة للرئيس الأرجنتيني، ألبرت فرنانديز، بعد فوزه بالانتخابات، سخطاً أرجنتينياً كاد يؤدّي إلى القطيعة بين البلدين. في المحصّلة، عبّدت سياسة اليمين المتطرّف الطريق أمام عودة اليسار إلى إدارة البرازيل، لكن هذه العودة تستدعي تغييراً جذريّاً في نَسْج التحالفات وتشكيل الحكومة العتيدة. فالبرازيل التي أنصفت زعيمها بعد اعتقال دام 580 يوماً تنتظر مَن يزيل الركام السياسي والاقتصادي ويعيدها إلى سكة النموّ والتقدُّم وأخذ دورها المحلي والدولي، واستعادة قيادتها لدول الجوار التي كانت تتكئ على قوّتها ورعايتها لتحقيق الاستقلال اللاتيني ومواجهة عبودية «السيد الأميركي». لكن التحدّي الرئيس يبقى في كيفيّة استئصال الورم السرطاني الذي يتمثل في تفشّي الفساد في عموم إدارات الدولة، فيما لم تتّخذ حكومات البرازيل المتعاقِبة إجراءات جدّية للتخلُّص من أخبث عدوّ تواجهه البلاد.