وصْفُ الرئيس الأميركي جو بايدن، لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، باعتباره «مجرم حرب»، في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، وتكراره الكرّة عبر تسميته بـ«الجزار»، وبأنه «لا يمكنه أن يستمرّ في السلطة»، خلال اجتماعه بلاجئين أوكرانيين في وارسو، تطوّران يشيان بالأهداف الفعلية التي باتت الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيقها من خلال الحرب بالوكالة الدائرة في أوكرانيا، بينها وحلف «الناتو» من جهة، وروسيا من جهة أخرى. جو بايدن يكنّ كراهية شديدة لبوتين، قبل تدخّله في أوكرانيا، ما حدا به لتجاوز جميع الأعراف الديبلوماسية، خلال مقابلة صحافية بضعة أشهر بعد وصوله للسلطة، واعتباره «قاتلاً». غير أن كلامه المشار إليه راهناً له معنى آخر. مسارعة بعض مسؤولي إدارة بايدن إلى تقديم «توضيحات» حول «حقيقة» موقفها من الحرب، والتأكيد أنه «ليست لديها استراتيجية لتغيير النظام في روسيا»، وفقاً لما قاله، مثلاً، وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، وقيام بعض حلفائها، كالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بنقد استخدام مثل هذه المفردات من قِبَل نظيره الأميركي، لأنها تتنافى مع مساعي التهدئة الجارية عبر القنوات الديبلوماسية، جميعها محاولات للحدّ من وقْع انكشاف النوايا الأميركية على المستوى السياسي الدولي، وما قد ينجم عنه من مفاعيل سلبية. لقد أصبح واضحاً أن واشنطن تريد إطالة أمد الحرب، وتوظيفها لاستنزاف روسيا، والسعي إلى إلحاق هزيمة بها، أملاً في أن يفضي ذلك إلى إسقاط رئيسها ونظامه، بعدما فرض على الإدارة الأميركية تعديل جدول أعمالها، وإحلال روسيا في مكان الصين كأولوية، بسبب قراره التصدّي المباشر لاستراتيجية الاحتواء والحصار المعتمدَة حيال بلاده منذ عقود.قادت الغطرسة واشنطن إلى الاعتقاد بأن في إمكانها اتباع مثل هذه الاستراتيجية ضدّ الصين، والمضيّ بتلك الخاصة بروسيا، ولو على نار هادئة. أثارت جرأة الرئيس الروسي غيظ صنّاع القرار في الإمبراطورية المنحدرة. غيظٌ نجم عنه إمعان في سياسة الغطرسة، عبر الانتقال إلى مواجهة مفتوحة مع موسكو، بدلاً من الاحتواء التدريجي و«الهادئ»، والافتراض أن طريق بكين تبدأ من العاصمة الروسية. ومن نافل القول إن مثل هذه السياسة تضع العالم أمام إمكانية صدام مباشر بين القوى العظمى، وإنها بدأت تخيف العديد من دوله، بمَن فيها بعض تلك الحليفة لواشنطن، والذي كان مقتنعاً بقدرته على «الانتصار في الحرب من دون خوضها».
لم يكن سراً أن القيادة الروسية ترى في استراتيجية الاحتواء الأطلسية المتبعة ضدّها عبر توسيع «الناتو» وصولاً إلى حدودها، وما يستتبع ذلك من انتشار عسكري غربي في جوارها، استمراراً لما طبِّق ضدّ الاتحاد السوفياتي، وساهم في انهياره وتفكّكه. الخداع الذي صاحب عملية توسيع «الأطلسي»، في العقود الماضية، وكذلك ما تمّ الإفصاح عنه، أخيراً، بعد اندلاع النزاع في أوكرانيا، مِن نقلٍ للقدرات العسكرية المتطوّرة إليها، وتدريبٍ لقواتها على استخدامها ضدّ القوات الروسية، قد عزّزا من قناعة موسكو بأنها مستهدَفة بحرب باردة جديدة، غاياتها النهائية إضعافها بنيوياً، وحتى تفكيكها إن تيسّر ذلك. تتجاهل معظم التحليلات المعادية لروسيا، وبعضها صادر عن أطراف يسارية، هذا المعطى الأساسي، وتفضّل التركيز على الطبيعة الفردية للسلطة في هذا البلد، وعلى المنطق الإمبراطوري والانتقامي الذي أصبح يحكم سياسات رئيسها، ويذهب قسم منها إلى حدّ التشكيك بصحّته العقلية. غير أن أصواتاً أكثر خبرة بالسياسة الدولية، كموريس غوردو مونتاني، المستشار الديبلوماسي للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، والذي لعب دوراً محورياً في صياغة القرار 1559 ضدّ سوريا والمقاومة في لبنان، بدأت تحذّر من مغبة التعامل بازدراء مع قوّة كبرى كروسيا، وتجاهل أبسط مقوّمات أمنها القومي.
قادت الغطرسة واشنطن إلى الاعتقاد بأن في إمكانها اتباع استراتيجية الاحتواء ضدّ الصين


ففي مقال نشره في «لوموند» في الـ26 من الشهر الجاري، يذكّر مونتاني بالتحذيرات المتكرّرة، وفي مناسبات عدّة بينها «قمّة الأمن والتعاون» في ميونيخ، في 2007، التي أطلقها بوتين ومسؤولون روس آخرون، من مغبة المضيّ بتوسيع «الناتو» شرقاً، من دون أن يلقوا آذاناً صاغية بين نظرائهم الغربيين. لكنه يضيف أن الرئيس الفرنسي شيراك، المولع بالثقافة الروسية، والذي عرف هذا البلد ومسؤوليه عن قرب، أرسله في مهمّة إلى موسكو في عام 2006 ليقترح على القادة الروس فكرة تأمين حماية مشتركة، أطلسية وروسية، لأوكرانيا - التي كانت قد شهدت ثورة ملوّنة في 2004 - يشرف عليها «مجلس روسيا - الناتو». وافق الطرف الروسي على الاقتراح، غير أن وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، رفضته كونه يمنع استمرار توسيع «الناتو». استنتجت فرنسا الرسمية، يومها، أن واشنطن مصرّة على التوسيع مهما كلّف الأمر. هذا الإصرار هو الخلفية الفعلية للنزاع الراهن، بنظر الديبلوماسي السابق، الذي يشكّك بتحقيق العقوبات على روسيا أهدافها المرجوّة، وفي مقدمتها تأليب رأيها العام ضدّ بوتين، ويدعو، بدلاً من ذلك، إلى البحث عن تسوية على قاعدة تحييد أوكرانيا، مع الحفاظ على وحدتها الترابية. وهو حرص، في مقالته التي تحمل العنوان التالي: «في مواجهة روسيا، علينا الخروج من الدينامية التي قد تؤدي إلى الحرب»، على الإشارة إلى أن «المسافة بيننا وبين الحرب في السياق الحالي، تزداد ضيقاً. ما الذي نريده؟ تدمير روسيا؟ هي ليست ألمانيا النازية». يعي الديبلوماسي المخضرم، والذي يعرف الأميركيين جيداً (وهو مَن صاغ معهم القرار المشؤوم المشار إليه سالفاً)، المنطق العميق الذي يحكم سياستهم، ويخشى من عواقبه الوخيمة على الأمن الأوروبي.
استنتاج مشابه بأن أميركا تريد إطالة أمد الحرب، توصّل إليه المؤرّخ البريطاني - الأميركي، المسكون بالحنين الماضوي إلى العظمة الإمبراطورية لبلديه، نيلز فيرغوسون، في مقال بعنوان «بوتين يسيء فهم التاريخ، وكذلك الولايات المتحدة للأسف»، على موقع «بلومبيرغ». يلفت فيرغوسون إلى تقرير كتبه مراسل «نيويورك تايمز»، ديفيد سانغر، الوثيق الصلة بالمسؤولين الأميركيين، يقول فيه إن هؤلاء يريدون إغراق روسيا في الوحل الأوكراني، ويضيف الأوّل، استناداً إلى مصدر رسمي هذه المرّة، أن «الهدف النهائي هو القضاء على نظام بوتين. طالما بقي هؤلاء في السلطة، ستعامل روسيا على أنها دولة مارقة غير مرحّب بها في المجتمع الدولي… الغرب أمام منعطف سيضاعف من قوته». يفسّر هذا الاعتقاد، بحسب المؤرخ المحافظ جدّاً، غياب أيّ جهد ديبلوماسي أميركي للتوصل إلى وقف إطلاق نار في أوكرانيا، وكذلك كلام بايدن عن بوتين. هو يجزم بأن الرهان على نجاح خطّة الاستنزاف هذه يستند إلى أوهام، لأن غالبية الروس لن تنقلب على بوتين، ولأن الأخير، وهنا النقطة الأهمّ، لن يتردّد في وضع «ورقة النووي على الطاولة»، إذا تجاوز الدعم الأميركي لأوكرانيا المستوى الذي يستطيع احتماله. «ترتكز هذه الاستراتيجية على معطيات تاريخية مشكوك في صحّتها. أوكرانيا ليست أفغانستان الثمانينيات، وحتى ولو كانت كذلك، فإن الحرب فيها لن تدوم 10 سنوات، بل 10 أسابيع على الأرجح. السماح لبوتين بتحويل أوكرانيا إلى ركام ليس من الذكاء في شيء لأنه يحقّق هدفه بمنع صيرورتها دولة مستقلّة… والتطورات الجارية تؤكد للصين بأنها لا تقف في مقابل أميركا هاري ترومان وجورج كينان، لأن ذلك البلد، الذي خاض بثقة كبيرة المرحلة الأولى من الحرب الباردة، أضحى بدوره جزءاً من التاريخ»، يختم فيرغوسون. الصين تعي هذا الواقع، وروسيا كذلك، لكن قسماً وازناً من صناع القرار في واشنطن لا يعي ذلك حتى الآن.