لا تحتاج إلى أن تعود في التاريخ إلى أكثر من بضعة أيام أو أسابيع، لتكتشف احتقار منظومة الغرب الأوروبي وامتداده العابر للأطلسي لسكان شرق القارة، التي يحلو لمن اعتنقوا عقيدة مركزية أوروبا تسميتها بالقارة العجوز. طبعاً النظرية الجغرافية السائدة علمياً هي أن كل القارات عجائز بالتساوي، وتبلغ 335 مليون سنة من العمر، عاشت 160 مليون سنة منها كتوائم ملتصقة في ما يسمى بانجيا، أو أمّ القارات، قبل أن تنفصل تدريجياً إلى عوالم قديمة وجديدة، وتنعم على لبنان بجعله صلة وصل وملتقى حضارات بين شرقٍ وغربٍ، وتجعل من بيت «ملطوش» لبنان التاريخي سعيد عقل (ولن يفلح نسيم طالب في انتزاع هذا اللقب مهما حاول) في زحلة، النقطة الوسطى في العالم. لكن لندع المركز الحقيقي للعالم جانباً، ونعود إلى هامشه البارد الباهت حيث الحدث هذا الأسبوع، وتحديداً عنصرية غرب أوروبا تجاه شرقها التي شاءت الظروف الآنية أن تدفن بين ليلة وصباحٍ، خدمة لخطاب الحرب التي اندلعت بين الشعوب التي تفتقر بشرتها إلى مادة الميلانين. يمكنك أن ترصد مئات المقالات في صحف لندن وباريس وبرلين وواشنطن ونيويورك التي تحتوي على وصف «بربري» و«مجرم» و«سارق»، وأوصاف أقسى من ذلك، لنعت أشقر الشعر وأزرق العيون الوافد من شرق أوروبا، بولندا وأوكرانيا ويوغوسلافيا السابقة بشكل خاص، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى حتى عشية «الحرب العالمية الثالثة»، وذلك لأن ذاك الوافد آتٍ لسلب وظائف الغربيين والانتقاص من رخائهم وفقاً للسردية المناهضة للمهاجرين التي تلقى في مركز الإمبريالية وبين منتفعيها أرضاً خصبة. حُكي الكثير عن جدار دونالد ترامب على حدود المكسيك، لكن لا تخلو الساحة الأوروبية الغربية من الترامبيين الذين يرون المكسيك على بوابتهم الشرقية، ويندبون حظهم بأن الانفصال عن بانجيا لم يجعل من البحر الأبيض المتوسط محيطاً ليس هادئاً.
الكراهية تجاه الوافدين لم تكن فقط حبراً على ورق الصحف، بل كانت تترجم عنفاً على أجسادهم التي رأت في شوارع وطرقات بلاد الحريات ملاذاً آمناً بعيداً عن بلادهم المفقّرة من قبل منظومة الهيمنة في الجانب الأوروبي «المتفوق» إلى الغرب. بالمناسبة، هناك فالق أوروبي آخر يفصل شمال غربها عن جنوب غربها، أو أندَلُسِها الذي «يشبهنا»، لكن الحدث لم يطله بعد. نسب الاعتداءات العنصرية في مدن عواصم الاستعمار التي تستهدف الـ«سود عيونه، يا ولا» لا تختلف كثيراً عن تلك التي تستهدف المهاجرين الشقر من شرق أوروبا. استهداف العنف العنصري لذوي الأشكال والألوان المختلفة يسهل شرحه، لكن كيف كان العنصري الجاهل المتخلّف يميّز الأوكراني أو البولندي في شارع معتم في الليل عن الإنكليزي أو الفرنسي أو الألماني الأصيل؟ وفقاً لعدة منشورات تناولت هذا الموضوع، الجواب هو في اللكنة وليس لون البشرة. اللكنة نفسها التي تمنع العامل السوري في لبنان من مدّ لفظه لحرف الألف في كلامه خوفاً من عواقب عنصرية، أو بتلك التي تجعل القروي الوافد إلى بيروت يعدّل في نطق مخارج حروفه لئلا يفضح من أين أتى.
هناك فالقٌ أوروبي آخر يفصل شمال غربها عن جنوب غربها


طبعاً هناك بعد طبقي للعنصرية، لا بل مفهوم العنصرية بمعاييره التي نعرفها اليوم هو طبقي بامتياز ونتاج المنظومة الرأسمالية العالمية. فالعديد من عمال بريطانيا الوافدين من أوروبا الشرقية استفادوا من «امتياز» تأشيرات عمال الزراعة المؤقتين قبل أن يتعرضوا للتمييز العنصري. في ألمانيا كان هناك استقطاب كبير لعمال بناء مؤقتين من بلادٍ شقراء زرقاء العيون وأعيدوا إلى ديارهم فور الانتهاء من إعادة بناء برلين. وهناك تسهيلات، مؤقتة، لعمال من جنوب أميركا، ليسوا شقراً ولا زرق العين، ليقوموا بأعمال التنظيف وغيرها من الأعمال التي يترفّع عنها سليلو مستعمري أميركا الجنوبية. وهنا نستحضر الكاتب الماركسي فرانز فانون وكتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، وهو بالمناسبة ولد في جزيرة المارتينيك في بحر الكاريبي التي تبعد ثلاث أو أربع جزر كبرى عن جزيرة غرينادا التي دفعت ثمن نكبة المارينز في بيروت، ونحن مدينون لها باعتذار، حيث ثأر رونالد ريغان من «كوبا الصغرى» الاشتراكية جنوب الكاريبي ليعيد الاعتبار لجيش الرجل الأبيض الأول، ويبعد الأنظار عن مشهد الهزيمة على طريق مطار بيروت في خريف عام 1983. غرينادا، بالمناسبة مرة ثانية، لا يفصلها عن جزيرة مارغاريتا الفنزويلية البوليفارية (مسقط رأس الكاتب) المنتصرة بثورتها إلا مسافة المشوار من بيروت إلى حيفا. يحاجج فانون بأن الرجل الأبيض (المستعمِر) لا يمكنه تقبّل أو استيعاب فكرة أن المستعمَر (الأسود المتعلّم في حجة فانون) قادر على مقارنة سيده الأبيض. لذا وجبت الأقنعة البيضاء، التي يسعى إليها متسلقو المجتمع الباحثون عن الارتقاء في المنظومة… امتثلْ بالأبيض ترتقِ!
لكن عندما تغذي هذه الفكرة عند من ولدوا بيض البشرة، النتيجة تأتي مخالفة. في فيديو لندوة في 5 شباط الفائت للقيادي في ميليشيا نازية أوكرانية، يفغيني كاراس، أو ما يشبه سمير جعجعنا أوائل ثمانينيات القرن الماضي، حيث يعترف «جعجعينكو» بأن «الغرب» لم يغرقه بالسلاح محبة بأزرق عيونه وصلعته، بل «لأننا نؤدي الفروض الذي يحددها الغرب، ونحن الوحيدون المستعدون للقيام بها…ولأننا نحب القتال»، ثم يستطرد في الفرضيات ويسأل: ماذا لو أردنا الاتحاد مع رفاقهم (نازيي المجر) في بودابست، وما بعد بودابست وصولاً إلى لندن. هل سيبقون معنا؟ لن ندخل في نقاش ما بين «البيضان»، ثانياً لأنهم يحتقروننا ولن يستمعوا إلينا، وأولاً لأنه «لطيزنا». ومن المحرج استخراج العبر من النازيين الجدد في أوكرانيا الذين يمطر عليهم الغرب اليوم المدائح والتصفيق لجرأتهم في مواجهة «هتلر العصر»، ولكن لا أظن أن ذلك يحرج النازيين الجدد الموجودين بيننا. وهنا نسألهم، هل أنتم مستعدون لتؤدّوا الفروض التي يحددها الغرب وهل تحبّون القتال عنه؟