مع أن إقرار العدو بـ«لا جهوزيّةِ» جيشه لشنّ هجوم عسكري ضدّ البرنامج النووي الإيراني، وحاجته إلى سنوات لبلوغ مثل هذه الجهوزيّة، ينطوي على رسائل من شأنها تقويض قدرة الرّدع الإسرائيلية، إلّا أنّ الرّكون إليه مَردّه سببان رئيسان: أوّلهما، أنه لم يَعُد بإمكان تل أبيب إنكار هذا الواقع، بالنّظر إلى أن ادّعاءَ خِلافه يَفرض عليها اتّخاذ خطوات عملياتيّة ضدّ طهران، بعدما تجاوزت الأخيرة خطوطاً حمراء إسرائيليّة من خلال رفع مستوى التّخصيب إلى 60%؛ والثاني أن إسرائيل تستطيع بذلك تبرير انكفائها عن الخيار العسكري، وامتلاك القدرة على التلويح به في الوقت نفسه، بما من شأنه - من وُجهة نظرها - التأثير على المعادلة المُتشكّلة حالياً. وفي خضمّ الجدل حول قدرة إسرائيل على بدء هجوم عسكري، وجدواه وكلفته وتداعياته على أمنها القومي ووجودها برمّته، وسبب امتناعها عنه في وقت كان فيه تفعيله أيسر وأنفع ممّا هو اليوم، تُستحضَر سابقةُ استهداف العدو مفاعل «تموز» النووي العراقي عام 1981، ومنشأة دير الزور في سوريا عام 2007، بهدف تعزيز احتمالية الضربة العسكرية في وعْي قادة إيران وحلفائها.الأكيد أن إسرائيل معنيّة بمنْع أيّ طرف عربي أو إقليمي معادٍ لها، من امتلاك قدرات نووية، ترى فيها مصدر تهديد استراتيجي ووجودي عليها، وهو ما ينسحب أيضاً على حيازة أعدائها قدرات نوعيّة واستراتيجية، سواءً بتصنيعها ذاتياً أو عبر التزوّد بها من أطراف خارجية، طوال العقود السابقة منذ خمسينيّات القرن الماضي. ومن هنا، فالأكيد أيضاً، أنه لو كانت إسرائيل قادرة على إنهاء البرنامج النووي الإيراني بضربة خاطفة، وبأثمان «معقولة»، لَمَا انتظرت حتى تموضعت إيران كدولة عتبة نووية - أو تكاد (بحسب التقديرات) -، ما يعني أن امتناعها عن أيّ خطوة من هذا النوع إلى الآن، مرتبط بمحدودية جدواها وكلفتها العالية. مع ذلك، لا تضير المراقبَ استعادةُ ظروف استهداف المفاعل النووي العراقي، في إطار ما عُرف حينها بـ«عقيدة بيغن» التي تقتضي منْع أيّ دولة معادية من امتلاك قدرات نووية، أيّاً كانت الظروف، ومقارنتها بالوضع الحالي في ما يتّصل بالبرنامج النووي الإيراني، للوقوف على مدى إمكانية تكرار تلك الواقعة.
أوّلاً، في ما يتّصل بالجدوى، فالبارز، في الحالة العراقية، أن عناصر البرنامج النووي كانت مُجمَّعة في مكان واحد، وأن هذا البرنامج لم يكن وطنياً بل فرنسيَّ الإنتاج، وهو ما أتاح لإسرائيل المراهنة على ضربة تؤدّي إلى تدميره، وفي الوقت نفسه منْع أيّ إمكانية لتجديده، على اعتبار أن ذلك التجديد سيكون مرهوناً بالموقف الفرنسي، وبالجهود السياسية التي ستُبذَل للحيلولة دونه، الأمر الذي يبدو أنه حصل بالفعل. في المقابل، انطلقت إيران في مشروعها من فرضية أن الولايات المتحدة، لا إسرائيل فقط، ستسعى بكلّ قوّتها لإحباط برنامجها النووي، ولو باستهدافه عسكرياً. ولذا، فهي عمدت إلى تفادي الخطأ العراقي، عبر توزيع عناصر البرنامج على مناطق متباعدة، بما يُبطل مسبقاً مفعول أيّ ضربة خاطفة، فضلاً عن تحصين منشآته الأساسية، كما «فوردو». وقد كان لتلك الاحتياطات الأثر الكبير في منْع استهداف المشروع الإيراني، أو في الحدّ الأدنى تأخيره سنوات، أخذاً في الاعتبار أيضاً تطوُّر القدرات العسكرية الدفاعية الإيرانية، والتي لعبت دورها في هذا التأخير أيضاً. واللافت، هنا، أن كبار القادة العسكريّين الإسرائيليين، وعلى رأسهم رئيس الأركان أفيف كوخافي، باتوا يُحذّرون من مستوى تطوّر الدفاعات الجوّية الإيرانية، والتي أصبحت تشكّل تحدّياً جدّياً لسلاح الجوّ الإسرائيلي، على رغم أن الأخير يُعدّ من بين الأسلحة الأكثر تطوُّراً في المنطقة والعالم.
أمّا الأهمّ، في الحالة الإيرانية، فهو أن البرنامج النووي يمثّل صناعة وطنية، تمّ تطويرها بقدرات ذاتية، وليس في أيّ عاصمة أجنبية، وبالتالي لا مجال للضغط عليه من هذه البوّابة، فضلاً عن أن أيّ محاولة لاستهدافه لن تؤدّي إلى إنهائه، وإنّما في أقصى الأحوال إلى تأخيره. وبالنظر إلى حضور هذا المعطى بقوّة لدى مؤسّسات التقدير والقرار في كيان العدو، يغدو مفهوماً تنبيهُ رئيس الاستخبارات السابق، اللواء عاموس يادلين، إلى أن أيّ استهداف عسكري للبرنامج النووي الإيراني، «يحتاج إلى خطّة موازية لا تتعلّق باليوم التالي، وإنّما بالعقد التالي» (معهد أبحاث الأمن القومي عام 2012). يُضاف إلى ما تَقدّم أن هذه الميزة نفسها تُعدّ ورقة رابحة بيد إيران، على اعتبار أن أيّ ضربة عسكرية لبرنامجها قد تَدفعها في اتّجاه خطوات نووية أكبر ممّا أقدمت عليه سابقاً، وبعيداً من الرقابة الدولية، الأمر الذي يمثّل مصدر قلق بالنسبة إلى الجهات الإقليمية والدولية المعنيّة، ويجعل حساباتها أكثر تعقيداً.
الأهمّ في الحالة الإيرانية أن البرنامج النووي يمثّل صناعة وطنية تمّ تطويرها بقدرات ذاتية


ثانياً، في ما يتعلّق بالكلفة، اختارت إسرائيل، في الثمانينيات، توقيتاً سياسياً ملائماً، مكَّنها من تنفيذ ضربتها ضدّ المفاعل النووي العراقي، من دون كلفة. إذ أتت الضربة في ظلّ تورّط نظام صدام حسين في الحرب على إيران، والتي شكّلت أولوية متقدّمة بالنسبة إليه، وكان عليه، في ما لو أراد الردّ على تل أبيب، وقْف تلك الحرب، والانسحاب من الأراضي الإيرانية، والتخلّي عن هدف إسقاط النظام. كذلك، لم تكن علاقات صدام الإقليمية والعربية توفّر له القدرة على جبْي أثمان من إسرائيل. في المقابل، تضع إيران، على رأس أولوياتها، مواجهة إسرائيل والهيمنة الأميركية في المنطقة، وهو ما تَعمل عليه من خلال استراتيجية متكاملة في ساحات المواجهة كافة (المفارقة المضحكة المبكية أن البعض يشكّكون في مصداقية إيران، في هذا المضمار، بالنظر إلى عدم نشوب حرب عسكرية مباشرة بين الطرفين!). بناءً عليه، فإن أيّ استهداف عسكري لبرنامجها النووي، ستُقابله إيران بِردّ، لا يمكن، ولأسباب استراتيجية، إلّا أن يكون رادعاً، كونها لن تتمكّن من مواصلة مشروعها النووي، والمُضيّ في خياراتها الاستراتيجية، إلّا إذا كان بتلك الصفة. وبالمقارنة مع العراق، ليست ثمّة أولويات أخرى تفرض على طهران تجاوُز الردّ على أيّ هجوم ضدّها، ولو أنها بمستوى التحدّي الاقتصادي الصعب الذي يَمثل أمامها، لأنها لو فقدت ردعها، فستفقد مكاسب كثيرة في الداخل والخارج. ومما يعزّز أوراقها أيضاً، أن تحالفاتها الإقليمية تسمح لها بأن تكون أكثر توثّباً وحسماً في بلورة قرار الردّ الرادع، وهو ما يبدو حاضراً لدى مؤسّسات القرار في تل أبيب.
بناءً على كلّ ما سلف، يتّضح أن الحرب النفسية التي تشنّها إسرائيل ضدّ إيران وحلفائها، تتطلّب منها أحياناً الاكتفاء بالعموميات، وإسقاطها على أوضاع غير ذات صلة، وهو ما ينسحب أيضاً على استحضار العديد من السوابق الأخرى. في المقابل، لا تبدو هذه الحرب ذات تأثير على أعداء إسرائيل، الذي يَظهرون أكثر تمسّكاً بخياراتهم الاستراتيجية، بعدما فشلت سياسة «الضغوط القصوى»، هي الأخرى، في ثَنْيهم عنها. ومن هنا، ستكون الأيام المقبلة كفيلة بتظهير عُقْم التهويل الأميركي والإسرائيلي، قياساً إلى الآمال التي عُقدت عليه. كما سيتّضح، أكثر من ذي قبل، أن قرار استهداف إيران وبرنامجها النووي عسكرياً، إنّما هو أكبر من إسرائيل، في أصل اتّخاذه وتنفيذه وتداعياته.