جرى تشبيه عملية 11 سبتمبر 2001 بضربة ميناء بيرل هاربور في 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941، عندما دمر اليابانيون السفن الأميركية في المحيط الهادئ. أنهت ضربة بيرل هاربور العزلة الأميركية عن مشاكل العالم القديم التي دشنها مبدأ مونرو في عام 1823، وهو ما لم تحققه مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى. إذ استمر الجدال الأميركي بين الانعزاليين والانخراطيين في فترة ما بين الحربين، وقد عنى يوم بيرل هاربور ليس فقط الاشتراك في الحرب العالمية الثانية ضد الألمان واليابانيين، بل قيادة العالم الغربي في تلك الحرب، ثم في الحرب الباردة ضد السوفيات (1947 ــ 1989)، وفي تدخلات عسكرية في الهند الصينية (1964 ـــ 1973)، وتشجيع حروب بالوكالة في الشرق الأوسط (1957 ــ 1982) وفي أفريقيا (الكونغو 1960 ــ 1965، أنغولا 1976 ــ 1991، موزامبيق 1974 ــ 1992، الحرب الصومالية الإثيوبية 1977 ــ 1978).لم يكن 11 سبتمبر 2001 أقل أثراً من 7 ديسمبر 1941، فقد فتح الشهية أمام اتجاه المحافظين الجدد الذي كان مسيطراً على إدارة بوش الابن، وتنفيذ ما دعوا إليه في التسعينيات. ذلك أن انتصار واشنطن على موسكو في الحرب الباردة، وتحولها إلى القطب الأوحد للعالم، يتيح أمامها مجال إعادة صياغة الأمم وفق النموذج الأميركي المبني على ثنائية «الديمقراطية» «اقتصاد السوق». وقد رأوا أن ضربة 11 سبتمبر وفاعليها قد أتوا من مجتمعات يجب إعادة صياغتها، من حيث أنظمتها السياسية (ولو كانت بمعظمها حليفة لواشنطن أو تابعة لها)، أو من حيث الثقافة.
كان غزو أفغانستان بعد أسابيع من 11 سبتمبر، في هذا الإطار الهدف الأميركي، كما كان غزو العراق عام 2003، نحو إعادة صياغة الشرق الأوسط من البوابتين الأفغانية والعراقية، سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وقد كان إشعال لبنان أميركياً مع القرار 1559 (أيلول/ سبتمبر 2004)، ورفع الغطاء الأميركي عن الوجود العسكري السوري في بلاد الأرز الذي حصل عام 1976، ثم تم تجديده عام 1989 مع اتفاق الطائف، يهدف للسيطرة الأميركية على نطاق الهلال الخصيب الممتد بين البصرة وبيروت وما بينهما... بما يعنيه ذلك من تغيير النظام السوري أو «تغيير سلوكه»، بعدما رفض تأييد الغزو والاحتلال الأميركيين للعراق. وأيضاً وضع إيران (رغم تعاونها مع الأميركيين في غزو أفغانستان والعراق) بين فكي الكماشة، بين بلاد الأفغان والهلال الخصيب. وبالتأكيد، فإن الأميركيين يعرفون أن من يسيطر على الهلال الخصيب ستسقط بين يديه بلاد فارس وبلاد النيل، وهو ما حصل مثلاً بعد معركتي اليرموك والقادسية. وقد كان انتصار سليم الأول على المماليك في بلاد الشام في معركة مرج دابق عام 1516، مدخلاً لسقوط مصر والحجاز ثم العراق. وكادت بلاد فارس أن تسقط بين يديه. على صعيد الأنظمة الحليفة لواشنطن، اتجه الأميركيون إلى التحاور منذ عام 2005 مع تلاميذ حسن البنا، ليكونوا واجهة إسلامية أميركية في وجه أسامة بن لادن وايمن الظواهري. وقد تُوّج ذلك في فترة 2011 ــ 2012 عندما رعت واشنطن وصول الإخوان المسلمين للسلطة في تونس ومصر، ومشاركتهم بها في ليبيا واليمن، وتزعمهم للمعارضة السورية عبر «المجلس» وخليفته «الائتلاف» في عام 2012. وكان النموذج الإردوغاني هو النموذج الذي أرادت واشنطن تعميمه في المنطقة.
هنا، فشلت واشنطن في أفغانستان، ثم فشلت في العراق. كما أن حلفها مع الإخوان المسلمين لم يعمر أكثر من سنتين. وسرعان ما عاد الأميركيون إلى نموذج حلفهم القديم مع العسكر، ابتداءً من عبد الفتاح السيسي وانقلاب 3 يوليو 2013 على حكم الإسلاميين. وشجعوا من طرف خفي أو بالوكالة محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو 2016 العسكرية ضد إردوغان... وظلوا مترددين تجاه ظاهرة خليفة حفتر، وأيدوا عسكر السودان الذين أسقطوا الإسلاميين في 11 نيسان/ إبريل 2019. ولم يمانعوا في صعود بقايا نظام بن علي في تونس إلى الواجهة الرئاسية مع الباجي قائد السبسي منذ عام 2014، ومن ثم الانقلاب النهائي على الإسلاميين مع حركة 25 تموز/ يوليو 2021 التي واجهتها الرئيس قيس سعيد وقوتها الحقيقية لدى العسكر.
على الصعيد الداخلي الأميركي، كان فشل تجربتَي أفغانستان والعراق مشجعاً على نمو انعزالية أميركية جديدة، رأينا أبعادها مع الفترة الرئاسية لدونالد ترامب. وهي لا تقتصر على تجنب ورفض التدخلات العسكرية الأميركية في الخارج، وعلى سحب القوات الأميركية من مناطق النزاع أو مناطق وجودها، وإنما ترفض العولمة الاقتصادية وترى أن الداخل الأميركي هو المكان الأفضل لاستثمارات الشركات الأميركية. وقد اتجهت في فترة ترامب نحو فرض حماية جمركية أمام السلع الأجنبية، مع رفض الاتفاقيات الاقتصادية المعمولة مع الخارج للتجارة الحرة، ومع تقييد حركة المهاجرين للولايات المتحدة. وقد اتبع ترامب أسلوب العقوبات الاقتصادية على دول معينة، أو على كل من يتعامل مع دول معينة، كأسلوب يستخدم فيه «الجنرال دولار» بدلاً من العسكري الأميركي لتحقيق أهداف السياسة الأميركية. ربما كان بايدن معاكساً لترامب في السياسة الاقتصادية الخارجية، ولا يريد التصادم مع الحلفاء في الاتحاد الأوروبي واليابان والهند وكوريا الجنوبية، كما فعل ترامب، بل يريد وضعهم تحت قيادة واشنطن في مواجهة الصينيين والروس. لكنه مثل ترامب في اتجاه اللاتدخل العسكري الأميركي في الخارج، ومع استخدام «الجنرال دولار».
كانت الولايات المتحدة ناجحة في أهدافها، في فترة ما بعد 7 كانون الأوّل/ ديسمبر 1941، وفاشلة في فترة ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

*كاتب سوري