أكملت حركة «طالبان» السيطرة على أفغانستان بأسرع ممّا كانت هي نفسها تتوقَّع. تحوّلٌ يبدو متخماً بالعِبَر التي ليس أقلّها تسجيل فشل آخر للاستراتيجيات الأميركية في العالم، يُفترض أن ينسحب على أماكن أخرى، ولا سيما في العراق. ولا شكّ في أن المعنيّ المباشر بما يجري هناك من تطوّرات دراماتيكية هو الدول المجاورة لأفغانستان، وخصوصاً إيران وباكستان وروسيا (المجاورة عبر طاجكستان وأوزبكستان). ومن المبكر تحديد مواقف هذه الدول من وصول «طالبان» إلى السلطة، قبل أن تحدّد الحركة بشكل واضح سياساتها الإقليمية والدولية. فمعظم الجوار كان قد التاع من وجودها، ومعها تنظيم «القاعدة»، في السلطة قبل عشرين عاماً.لكن من بين الدول الأكثر اهتماماً بما يجري، من دون أن تحاذي أفغانستان، هي تركيا. فقد ارتبط اسم تركيا، في الفترة الأخيرة، بأفغانستان بشكل وثيق، من خلال عنوانَين: الأوّل، هو الاستعداد التركي لإرسال قوّات إلى كابول لحماية مطارها بالاتفاق مع السلطة الحاكمة برئاسة أشرف غني؛ والثاني مسألة الهجرة الأفغانية المتزايدة إلى تركيا. في العنوان الأوّل، يعرف الجميع أن فكرة حماية مطار كابول من قِبَل الجنود الأتراك طَرحها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في اجتماعه الأوّل، والأخير حتى الآن، مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، في بروكسل في 14 حزيران الماضي، على هامش قمة «حلف شمال الأطلسي». ومن حينها، تعدّدت الآراء والمواقف من الطرح التركي، وأوّلها أنه اقتراح مستغرَب؛ ففي وقت تهرب فيه الولايات المتحدة من أفغانستان على وجه السرعة، تتصدّى تركيا للحلول محلّها ولو في حرم المطار فقط، في ما فُهمت منه عدّة غايات أبرزها ما يلي: أوّلاً، منْح الحكومة الأفغانية القائمة الثقة بأن قوات دولة أطلسية، ولو بغير الصفة الأطلسية، لا تزال هناك. ثانياً، منح تركيا موطئ قدم منفصلاً عن «حلف شمال الأطلسي»، الأمر الذي يوفّر لها القيام بدور إقليمي وعالمي إضافي. لكن إذا كانت لتركيا، كما هي تتذرّع، «مصالح قومية» في سوريا والعراق والقوقاز وليبيا وشرق المتوسط، فإن المصلحة القومية المباشرة غائبة بصورة شبه كلّية عن الوضع في أفغانستان، إلّا إذا كان يراد لأنقرة أن تقوم بدور مشاغب بوجه الدول المجاورة لأفغانستان مِن مِثل إيران، أو الدول القريبة المعنيّة جدّاً كروسيا. ثالثاً، أن إرسال قوات تركية إلى كابول كان سيَدخل في إطار المغامرات التي يستهويها إردوغان في أكثر من مكان، في سياق إشباع «الشعور بالعظمة» لديه، وبعْث الروح السلطانية العثمانية، وإظهار أنه قادر على أن يكون حاضراً حيث أمكن له ذلك، ولو في نيوزيلندا.
أمّا السبب الأخير والأهمّ، والذي هناك شبه إجماع عليه في الداخل التركي، فهو أن إردوغان يريد استرضاء الرئيس الأميركي. فالاقتراح جاء من الأوّل ورحّب به الأخير. وكانت ملامح ذلك بدأت بالظهور مع الأجواء الإيجابية التي طبعت المكالمة الهاتفية بين الرجلين عشية 24 نيسان الماضي. ومع أن بايدن أبلغ إردوغان قراراً سيّئاً جداً بالنسبة إلى تركيا، وهو الاعتراف الأميركي بـ«الإبادة» الأرمنية، لكن الرئيس التركي «بلع» القرار المذكور، بل وسُرّ كثيراً بإبلاغ نظيره الأميركي له أنه يريد الالتقاء به يوم 14 حزيران، وهو ما كان يرغب فيه بشدّة، خصوصاً أن بايدن سبق أن توعّده خلال حملته الانتخابية بـ«إسقاطه ديمقراطياً»، بعدما فشل في إسقاطه عسكرياً يوم كان نائباً للرئيس، في المحاولة الانقلابية في 15 تموز 2016.
بدأت الضغوط الأميركية على تركيا منذ أواخر عهد دونالد ترامب. لكن عداء بايدن لإردوغان أنبأ بأيّام أسوأ بالنسبة إلى أنقرة، وهو ما تَحقّق فعلاً مع تواصل سياسة الخنْق الاقتصادي، والتي أدّت إلى تراجُع سعر صرف الليرة، واستنزاف البلاد المزيد من احتياطي العملة الصعبة، فضلاً عن الجفاء الدبلوماسي الذي تجسّد في امتناع بايدن عن الاتصال بإردوغان منذ انتخاب الأوّل حتى يوم 24 نيسان. لذلك كلّه، بدا طبيعياً أن يتلقّف الرئيس التركي خبر اللقاء مع نظيره الأميركي بكلّ الحسابات الممكن طرحها على الطاولة. وتمثّلت المفاجأة في أن إردوغان طرح على بايدن فكرة إرسال قوات تركية لحماية مطار كابول. وفي ظلّ غياب أيّ مصلحة مباشرة لتركيا في ذلك، فإن الانتقادات واجهت طرح إردوغان، الذي اتهمته المعارضة بأنه يضحّي بالجنود الأتراك، ويحمي أرواح الجنود الأميركيين الذين سيغادرون. ولم يجد المعارضون سبباً لهذا الاقتراح سوى أن إردوغان يريد امتصاص «الغضبة» الأميركية عليه، بما يتيح تخفيف العقوبات والضغوط، وبالتالي وصوله إلى معركة الرئاسة في عام 2023 وقد ارتاحت البلاد قليلاً، ليقنص بعض النقاط التي تُمكّنه من الفوز في الانتخابات، خصوصاً أن هامش الفوز سواء لإردوغان أو للمرشح المنافس سيكون ضئيلاً لا يتجاوز النقطة أو النقطتين.
في هذا السياق، ومع سيطرة «طالبان» على كابول، وبهذه السرعة، فإن تطوّر الأحداث شكّل ضربة قوية غير مسبوقة للرئيس التركي، يُفترض أن تنعكس في صناديق الاقتراع. خسر إردوغان ورقة كان يراهن عليها للخروج من دائرة الضغوط الأميركية. إذ إنه لم يبدأ حتى في تقديم «الخدمة» للأميركيين، وإن كانوا سيحفظون له، ولو نظرياً، مجرّد تقديمه الوعد بالخدمة. ويكشف سقوط الاقتراح التركي قصر النظر في التخطيط الاستراتيجي في قضية مِن مِثل أفغانستان. وخطأ التقدير هذا وقع فيه إردوغان في أكثر من مسألة، من مثل إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، أو دور الدولة العميقة في مصر، وأخيراً الوضع في تونس. أمّا في المغرب، فقد صادق أصدقاء الرئيس التركي، في حزب «العدالة والتنمية» المغربي، على الاعتراف بالكيان الصهيوني وتبادل السفراء معه، وبتوقيع رئيس الحكومة نفسه، سعد الدين العثماني، حتى يستمرّوا في السلطة. هكذا، سحبت سيطرة «طالبان» على كابول، من تحت أقدام تركيا، ورقة الوجود العسكري في أفغانستان، وبالتالي إمكانية استخدام ذلك، ورقةً في المساومات مع «طالبان»، ومع إيران وروسيا أيضاً. وبمعزل عن الموقف من سيطرة الحركة، فإن خلوّ الساحة من وجود عسكري تركي مباشر يريح طهران وموسكو ولاعبين آخرين، خصوصاً أن أنقرة لها سوابق غير مشجعة في المساومات في ليبيا وفي سوريا.
وفي ظلّ سقوط ورقة حماية مطار كابول، تبقى في الواجهة صورة وحيدة، هي صورة اللاجئين الأفغان وهم يدخلون إلى تركيا عبر إيران، في ما يمثّل اليوم عنوان اهتمام كبير داخل تركيا. فالمعارضة تحذّر من تدفّق هؤلاء حتى لا تنوء البلاد تحت عبء قضية الهجرة وإدخالها في الحسابات السياسية. أمّا بالنسبة إلى السلطة، فإن اللاجئين هم الورقة الوحيدة المتبقّية للمساومة مع الغرب. ومن هنا يأتي «تضخيم» وسائل الإعلام الموالية لعدد اللاجئين الأفغان الذين يُقدَّرون بنصف مليون من أصل ستّة ملايين مهاجر معظمهم من السوريين، فيما لم يجد إردوغان، في تعليقه على أحداث أفغانستان، سوى القول إن تركيا تبدو أمام موجة هجرة جديدة. ولا تستبعد المعارضة أن يكون ذلك مدخلاً إلى صفقة مالية جديدة مع الأوروبيين بخصوص المهاجرين الجدد، خصوصاً أن إردوغان نفسه كان قد قال، قبل أيام فقط، إنه لا توجد موجة هجرة.