تردّدت أصداء فوز إبراهيم رئيسي بالرئاسة الإيرانية، في كيان العدوّ، حيث شكّلت محوَر اهتمام المؤسّستَين السياسية والإعلامية، اللتين حاولتا قراءة رسائلها وتداعياتها على المسار النووي والمشهد الإقليمي. كما فرض الحدث نفسه على الأجهزة الأمنية التي عقدت جلسة مطوّلة من أجل بحث السيناريوات المحتملة بعد هذا الفوز. وينبع الاهتمام الإسرائيلي من حقيقة أن إيران تشكِّل مصدر تهديد استراتيجي على الأمن القومي لكيان الاحتلال، بدءاً من تبنّيها مشروع تحرير فلسطين، إلى دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين وسائر دول المحور، إلى برنامجها النووي وصواريخها الدقيقة التي تزوّد بها حلفاءها. وفي ضوء ذلك، تتحوّل كلّ انتخابات تتّصل بمؤسّسات القرار في طهران، بالنسبة إلى تل أبيب، إلى محطّة كاشفة لمآل الوضع الداخلي في الأولى، وانعكاسه على المشهد الإقليمي. راهنت إسرائيل، هذه المرّة، على أن تسهم الانتخابات الأخيرة في إضعاف النظام الإيراني، بفعل الاستياء الشعبي الناتج من فشل حكومة الرئيس حسن روحاني في معالجة الوضع الاقتصادي، إضافة إلى الحملات الخارجية والداخلية المكثّفة التي دعت إلى مقاطعة الانتخابات. لكن حجم المشاركة الشعبية، في ظلّ تلك الظروف التي يضاف إليها انتشار وباء "كورونا"، والبالغ 48,8%، مثّل إنجازاً جدّياً. والجدير ذكره، هنا، أنه سبق لهاشمي رفسنجاني أن فاز، في عام 1993، بنسبة 63% من أصوات المقترعين الذين شكّلوا 50,66% من مجمل مَن يحقّ لهم التصويت. وقبل ذلك، شهدت إيران أيضاً محطّتَين انتخابيتَين كانت نِسَب المشاركة فيهما أعلى من هذه الأخيرة بقليل.وحضرت رسائل فوز رئيسي بنسبة 62% من الأصوات في كيان العدوّ، انطلاقاً من كون الرئيس المنتخَب «يجسِّد روح الثورة الإسلامية وفكرها»، وكونه يتبنّى النهج الثوري بحسب أدبيات النظام الإسلامي في طهران، وترى فيه الجهات المقابلة تشدّداً في أكثر من اتجاه، وتحديداً في كلّ ما يتّصل بإسرائيل والولايات المتحدة. وممّا يفاقم من مخاطر هذه الانتخابات بالنسبة إلى إسرائيل، أنها تأتي في التوقيت الأكثر دراماتيكية، وبالتوازي مع المفاوضات النووية في فيينا؛ إذ من الواضح أن تل أبيب تتخوّف من تداعيات رفع العقوبات والعودة إلى الاتفاق النووي في ظلّ رئيسٍ «ثوري»، وانعكاس ذلك إيجاباً على وضع إيران الداخلي والإقليمي، وعلى حلفائها أيضاً. أمّا في حال تعثّر مساعي العودة إلى الاتفاق، فستبادر إيران، بحسب التقديرات الإسرائيلية، إلى اتّخاذ خطوات "ثورية"، بما يرفع منسوب المخاطر على الأمن القومي الإسرائيلي. على هذه الخلفية، رأى رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، في مستهلّ أوّل جلسة لحكومته، أن فوز رئيسي بالانتخابات يُعدّ «إشارة أخيرة إلى الدول العظمى كي تستيقظ، قبل العودة إلى الاتفاق (النووي)، وكي يدرك هؤلاء مع مَن يعقدون الصفقات». وبهذا الموقف، يكشف بينت حجم المخاوف ممّا ستؤول إليه التطوّرات على المسارَين النووي والإقليمي، فيما يبدو لافتاً انضمام الخطابَين الرسمي والإعلامي الإسرائيليَّين سريعاً إلى ما يظهر أنه توجّه غربي مدروس لتطويق الرئيس المنتخَب بخطاب هادف إلى تشويه صورته. وفي هذا الإطار، وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية رئيسي بأنه «أكثر رؤساء إيران تطرّفاً حتى الآن... وينبغي أن يثير قلق المجتمع الدولي»، وأنه «ملتزم بالطموحات النووية للنظام وبحملته للإرهاب العالمي»، في إشارة إلى مواقفه ضدّ إسرائيل والهيمنة الأميركية. مع ذلك، ولأن مؤسّسات القرار الإسرائيلي تتعامل مع عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق كما لو أنها مسألة وقت، فقد سبق أن اعتبر رئيس الحكومة البديل، وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، الأسبوع الماضي، أن «علينا الاستعداد سريعاً للعودة إلى الاتفاق حول النووي الإيراني»، مؤكداً أن «إسرائيل ستقوم بكلّ ما تستطيعه لمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية».
في هذه الأجواء، بادرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى عقد اجتماع مطوّل، خلص، بحسب ما نقلته وسائل الإعلام العبرية، إلى أن «انتخاب رئيسي لا يُبقي أمام إسرائيل سوى إعداد خطط مهاجمة النووي الإيراني»، علماً بأن رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، توجّه إلى الولايات المتحدة على وقع انتخاب رئيسي، مستنداً إلى تعليمات جديدة من رئيس الحكومة، بينت، مخالِفة لتعليمات سلفه (بنيامين نتنياهو) بعدم مناقشة تفاصيل الاتفاق النووي. إذ قرّر بينت، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية، أن «يتبنّى توجّهاً مختلفاً، يُفضّل بموجبه اتفاقاً إشكالياً على اتفاق سيّئ، وبكلمات أخرى: بما أن الولايات المتحدة حسمت قرارها بالعودة إلى الاتفاق، يتعيّن على إسرائيل أن تبذل أقصى ما في وسعها من أجل التأثير عليه». تستند هذه التوجيهات إلى أنه في ضوء فشل خيارات إسرائيل ورهاناتها على وقف البرنامج النووي الإيراني أو إبطائه، وفي ظلّ ارتداعها عن خيارات دراماتيكية، وفشل رهانها أيضاً على مفاعيل الضغوط الاقتصادية القصوى، فإن الخيار المتبقّي أمامها هو محاولة الحدّ من المخاطر واحتوائها.
رأى بينت أن فوز رئيسي بالانتخابات يُعدّ إشارة أخيرة إلى الدول العظمى كي تستيقظ

وضمن هذا السياق، يمكن وضع مقاربة رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة لـ«الكنيست»، رام بن باراك، الذي أوضح، في مقابلة معه، أنه «إذا لم نقرّر احتلال إيران، أو الاستمرار في قصف متكرّر لمشروعها النووي، فإن الطريق الأفضل هو اتفاق نووي جيّد يمكن فرضه، وإلى جانبه خيار عسكري يعرفون أنه موجود، ويمكن تفعيله عند الحاجة». لكن المشكلة بالنسبة إلى إسرائيل أن إيران أثبتت، بالممارسة، أنها لن تتراجع عن خطوطها الحمر، وتحديداً في ما يتعلّق برفع العقوبات كشرط رئيسيّ للعودة إلى الاتفاق، وهو أمر تتخوّف إسرائيل من تداعياته في الداخل الإيراني، وعلى المستوى الإقليمي.
وتعدّدت التقديرات حول التداعيات الفورية لانتخاب رئيسي على المفاوضات النووية؛ إذ رأى البعض أن تأخير التوصّل إلى اتفاق قد يمنح إسرائيل فرصة للتأثير في مواقف إدارة جو بايدن، في حين نقلت تقارير إسرائيلية عن مصدر أميركي رفيع قوله «إنه لأمر مقلق أن تستمرّ المفاوضات حتى شهر آب المقبل»، مضيفاً إنه «كلّما امتدّ الوقت من دون إحداث انعطافة، فإن فرص المحادثات ستتراجع». من جهته، أعرب رئيس الحكومة السابق، إيهود أولمرت، عن أمله بالتوصّل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران، كونه يمنع الأخيرة من احتمال إنتاج أسلحة نووية. ودعا المسؤولين الإسرائيلين إلى البحث عن مواجهات مع أعداء إسرائيل، وليس مع أصدقائها، أي الإدارة الأميركية، لافتاً إلى أن إيران لا تشكّل خطراً على إسرائيل فحسب، وإنما تُقلِقُ الولايات المتحدة أيضاً.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا