بعد 6 أسابيع من المواجهات العسكرية، كَرّس اتفاق وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان، برعاية موسكو، انتصاراً ميدانياً لباكو. وهو أتى ليُعزّز أيضاً النفوذ الكبير لموسكو في القوقاز، وليفسح المجال أمام دور جديد لتركيا في هذه المنطقة. استعادت أذربيجان، بعد توقف المعارك في ناغورنو قره باغ، المقاطعات السبع التي كانت قد خسرتها خلال حرب عام 1993 بينها وبين أرمينيا، وسيطرت على مدينة شوشي الاستراتيجية الواقعة بين أرمينيا وستيباناكرت. يُشكّل اتفاق وقف إطلاق النار انتصاراً سياسياً لأذربيجان؛ فهو لا يتضمن أيّ إشارة إلى وضع ناغورنو قره باغ، والاستفتاء حول حق تقرير المصير الذي كان بين المبادئ الثلاثة التي حدّدتها «مجموعة مينسك» في عام 2007 كقاعدة لحلّ سياسي دائم في هذا الإقليم. يرى جان دو غلينياستي، الدبلوماسي الفرنسي السابق، ومدير الدراسات حول الشؤون الروسية في «معهد الأبحاث الدولية والاستراتيجية»، أننا أمام «نجاح مهمّ لعائلة عالييف التي استندت شرعيتها السياسية إلى السعي لاستعادة هذه المنطقة. أبو الفضل التشيبي، الرئيس السابق لأذربيجان، أُجبر على الاستقالة لأنه هُزم في الحرب السابقة. علييف الابن نَفّذ وعده السياسي لناخبيه. هو لم يكتفِ باستعادة الأراضي التي خسرتها بلاده، بل أصبح أحد الأطراف القادرة على التأثير في أيّ حلّ سياسي يُحدّد مستقبل إقليم ناغورنو قره باغ».
تبدو أرمينيا الخاسر الكبير، على رغم تمكّنها من إنقاذ ممرّ لاتشين الاستراتيجي بينها وبين شمال الإقليم. ووفقاً للدبلوماسي السابق، فقد «أخطأ الأرمن عندما اعتقدوا أن بلداً يعدّ 3 ملايين من السكان، ويُمثّل ناتجه المحلي الإجمالي ثلث ذلك الأذربيجاني، يستطيع الحفاظ على مكاسبه على المدى الطويل... كان من المفترض أن تدفعهم مصالحهم إلى تقديم تنازلات عن الأراضي التي يعترفون بأنها تعود إلى أذربيجان، في مقابل الحصول على الاستفتاء حول حق تقرير المصير في ناغورنو قره باغ. لم يفهموا أن الزمن كان يعمل لغير مصلحتهم. راكمت باكو القدرات العسكرية عبر شراء السلاح من روسيا، وطَوّرت تحالفها مع روسيا، ما يعني أن الأوضاع كانت ستَتغيّر حتماً».
يَظهر الروس مجدّداً على أنهم سادة اللعبة. ينص الاتفاق على نشر قوة روسية مؤلّفة من 2000 جندي على خطوط التماس بين الطرفين المتنازعين لحفظ السلام. حظي هذا التموضع الميداني باعتراف المجتمع الدولي الذي يخشى زعزعة الاستقرار في منطقة تحتلّ موقعاً حيوياً كممرّ لأنابيب النفط والغاز.
ميزان القوى لن يَتغيّر في السنوات القادمة


يعتبر بيرم بلتشي، مدير «المعهد الفرنسي للدراسات الأناضولية» في إسطنبول، أن «هذا الأمر يشكّل انتصاراً جديداً لروسيا التي حُرمت 25 عاماً من التواجد عسكرياً في أذربيجان. موافقة باكو على هذا التواجد هي إقرار بدور موسكو المركزي في المنطقة، على رغم اضطرارها للتأقلم مع نفوذ تركيا المتزايد فيها». حسب بلتشي، ستشارك أنقرة على الأغلب في قوات حفظ السلام، من دون اعتراض من الروس، بعد أن أظهرت قدرتها على التدخل في القوقاز. الدعم العسكري الكبير الذي قَدّمته لباكو، خاصة في مجال الطائرات المسيّرة، ساهم بشكل حاسم في ترجيح الحرب لمصلحة أذربيجان.
«في سوريا وفي ليبيا، يدعم الروس والأتراك المعسكرَين المتنازعَين، لكنهم يتمكنون من التوصّل إلى تفاهمات رغم خلافاتهم. أظن أن التفاهم بينهم في ناغورنو قره باغ أسهل. هي المرّة الأولى منذ سقوط الاتحاد السوفياتي التي توافق فيها موسكو على حضور عسكري لدولة أخرى في هذه المنطقة. على المستوى الاقتصادي، تعاملت موسكو إيجابياً مع نموّ النفوذ الصيني، وعلى المستوى السياسي، اعترفت بدور القوى الغربية، ولكن أن تسمح للاعب جديد بالتدخل عسكرياً هو المعطى المستجدّ الذي لا سابق له»، بنظر خبير الشؤون الأناضولية.
هو يجزم بأن هذا الخيار كان الوحيد المتوفّر بالنسبة إلى الروس. فالعلاقات الوثيقة بين تركيا وأذربيجان منذ 30 سنة كان لا بدّ أن تؤخذ في الاعتبار من قِبَلهم. علاوة على ذلك، فإن الرهان الطويل الأمد لفلاديمير بوتين هو دمج تركيا في اللعبة القوقازية لتعميق الشرخ بينها وبين الدول الغربية. «التسوية الحالية غايتها من منظور موسكو إثبات أن الأتراك والروس قادرون على حلّ نزاعات المنطقة من دون إشراك الأوروبيين والأميركيين، كما حصل الآن مع مجموعة مينسك التي تمّ استبعادها تماماً. بوتين يقدّم تنازلات لتركيا ويُسجّل نقاطاً في مواجهته مع الغربيين»، يضيف بالتشي.
غير أن جان دو غلينياستي مقتنع بأنه سيكون من الصعب على الأتراك، على الرغم من دورهم الاقتصادي والثقافي الفاعل في المنطقة، أن يعظّموا من نفوذهم فيها. «العقبة الرئيسة هي أذربيجان. صحيح أن عالييف استعاد السيطرة على قسم من الإقليم بفضل المساندة التركية التي سمحت له بأن يفاوض من موقع قوة. لكن، وبعكس التشيبي الذي كان قريباً من الإخوان المسلمين ومؤيّداً لتوسّع النفوذ التركي، فإن الرئيس عالييف علماني. هو لم يتراخ في مطاردته للإخوان المسلمين، وبما أنهم ورقة أساسية في يد أنقرة لتقوية نفوذها، يُسبّب هذا الواقع مشكلة حقيقية لباكو».
الخبيران يؤكدان أن النزاع في ناغورنو قره باغ وُضع على سكّة الحلّ الفعلي، مع أن «خلافات قد تبرز بالنسبة إلى خرائط الطرق، خاصة ممرّ لاتشين الذي يربط بين أرمينيا وشمال الإقليم، وذلك الذي يصل بين ناخيتشيفان، وهي مقاطعة لأذربيجان خارج أراضيها وغير متّصلة جغرافياً بها، وبين أذربيجان وتركيا»، يقول بيرم بالتشي. جان دو غلينياستي، من جهته، يشير إلى أن تجدّد النزاع مرهون بالوضعية القانونية التي ستُعطى لسكان شمال الإقليم. «ليست هناك أيّ ضمانات حول هذه المسألة. سيعتمد الأمر على نوايا باكو التي تُصرّ على أن الإقليم، ولو شكلياً، هو جزء من أراضيها. هذا شرط مركزي لالتزامها بالاتفاق. ومن البديهي أن ميزان القوى لن يَتغيّر في السنوات القادمة. فأذربيجان غنية بالنفط والغاز، وتتمتّع بصلات متميّزة مع الغرب الذي يستورد منها الطاقة (أنبوب نفط باكو- تبليسي- شيهان). ستبقى أذربيجان غنية وأرمينيا فقيرة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا