في غمرة انشغال الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، بمعركته الرئاسية، أقدمت آذربيجان، بدعم كامل من تركيا، على تفجير الوضع في جنوب القوقاز. بيّنت تطورات اليومين الماضيين المساعي الدؤوبة لباكو وأنقرة لتحقيق خرق ميداني من شأنه أن يقوّي موقع تركيا في التفاوض على الحلّ النهائي لإقليم ناغونو قره باغ. لكن دون ذلك الكثير من الوقت، في ظلّ توصّل أرمينيا وآذربيجان وروسيا إلى اتفاق أوّلي يضع حدّاً للحرب المتواصلة منذ السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي. ومع دخوله حيّز التنفيذ فجر اليوم بعد توقيعه من قِبَل رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، والرئيس الآذربيجاني إلهام علييف، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكّد هذا الأخير سريان وقف شامل لإطلاق النار، في موازة إعلانه أن القوات الآذربيجانية والأرمينية ستبقى متمركزة في مواقع السيطرة الحالية لها، على أن تنتشر قوات حفظ سلام روسية على امتداد خطّ التماس في قره باغ والممرّ الواصل بين أراضي أرمينيا والإقليم. ويتضمّن الاتفاق، بحسب الرئيس الروسي، رفع القيود عن حركة النقل والعبور وتبادل الأسرى بين طرفَي النزاع، وعودة النازحين إلى قره باغ برعاية المفوض الأممي لشؤون اللاجئين. الخطوة التي وصفها باشينيان بأنها «مؤلمة بشكل لا يوصف، لي شخصياً كما لشعبنا»، بدت محلّ ترحيب من قِبَل آذربيجان التي أعرب رئيسها عن ارتياحه لوضع «النقطة الأخيرة» في تسوية النزاع في المنطقة، مشيراً إلى أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه يصبّ في مصلحة كل من باكو ويريفان.
تصميم سنان عيسى | أنقر على الصورة لتكبيرها

سبق التوصل إلى هذا الاتفاق، تقدُّم كبير أحرزه الجيش الآذربيجاني، مدعوماً بآلاف المرتزقة السوريين، على الجبهة في أراضٍ تَعتبرها باكو تابعة لها ومحتلّة مِن قِبَل يريفان، بما فيها منطقة ناغورنو قره باغ. إذ أعلن رئيس آذربيجان ونظيره التركي، رجب طيب إردوغان، سقوط مدينة شوشي بيد القوّات الآذربيجانية، ما عُدَّ مقدّمةً لدخول الحرب منعطفاً جديداً. فالمدينة التي تقع على تلّة استراتيجية للغاية محاطة بالأودية العميقة وتكشف بالكامل ستيباناكرد، عاصمة قره باغ، والتي لا تبعد عنها سوى ربع ساعة بالسيارة. لكن الأنباء الواردة من الميدان الأرميني نفت سقوط المدينة التاريخية الصغيرة، وأفادت بأن الاشتباكات كانت لا تزال متواصلة على أطرافها. يراود الأرمنَ في شوشي وقره باغ شعورٌ بأنهم تُركوا لمصيرهم، لكنهم لن يسمحوا بضياع حلم استقلال «آرتساخ»، وانضمامها إلى «وطنها الأمّ» أرمينيا.
في هذا الوقت، بدا الارتباك الروسي جلياً، كما موقفها السلبي من أرمينيا، ما سهّل بدوره تقدُّم القوات الآذربيجانية. وعلى رغم إعلان باكو، أمس، إسقاط مروحية روسية بمضادّات أرضية فوق أرمينيا «خطأً»، إلّا أن موسكو أصدرت بياناً أعلنت فيه عدم نيّتها التدخُّل في الحرب الدائرة، ما يمكن عَدُّه تشجيعاً إضافياً للجانب الآذربيجاني في مواجهة الأرمينيين. من جانب آخر، فإن الاقتراح الذي عرضه الرئيس التركي على نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بتشكيل مجموعة عمل جديدة، على غرار «مجموعة مينسك»، ووعدُ هذا الأخير بدرس المقترح في الأيام المقبلة، سيعني، في حالة قبوله، أن أنقرة في طريقها إلى تحقيق أحد أهمّ أهدافها، أي أن تصبح شريكاً سياسياً في عملية الحلّ. أمّا بالنسبة إلى إيران، فهي لا تزال تضع عدم توريطها في المعارك أولويةً، بمعزل عن سيرها في الداخل الآذربيجاني والأرميني.
التقدُّم الآذربيجاني ــــ التركي على وقع التوقيت «البايدني» الجديد واضح، مِن جرّاء قلق إردوغان. وهذا ليس سرّاً ولا أمراً مكتوماً، إذ إن الجميع يتحدّث عنه. وإذا كان الموقف من أكراد سوريا أحد أكبر أسباب الخلاف، فإن دعوة بايدن، قبل أشهر، إلى إطاحة إردوغان ديموقراطياً، هي القشّة التي قصمت ظهر البعير. وإذ ذهبت صلوات إردوغان لفوز ترامب بولاية رئاسية ثانية سدى، بدا واضحاً انزعاجه من فوز بايدن. وفي هذا الإطار، يكتب فهيم طاشتكين في «غازيته دوار» أن إردوغان لن يرى بالتأكيد قبالته رئيساً مثل ترامب يقول له: «إنني سأنسحب من سوريا وأتركها لك لتأخذها»، في حين يُعرب الكاتب أوزاي شيندير، في صحيفة «ميللييات»، عن اعتقاده بأن من بين أسباب عداوة بايدن لتركيا ــــ وليس فقط لإردوغان ــــ أن الرئيس الأميركي المُنتخَب شغل، لفترةٍ طويلة، منصب سيناتور عن ولاية ديلاوير، حيث يتمتّع اللوبي اليوناني بنفوذ قوي. وهو وقف ضدّ كل مشاريع مساعدة تركيا اقتصادياً.
اعتبر علييف أن الاتفاق يصبّ في مصلحة كل من باكو ويريفان


حتى الآن، لم يتّصل إردوغان ولا أيّ مسؤول في الدولة ببايدن مُهنّئاً. على أن أوّل المهنئين كان زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، الذي كتب في تغريدة عبر تويتر»، نشرها باللغتين التركية والإنكليزية، «إنني أهنّئ جو بايدن الذي انتُخب الرئيس الـ 46 للولايات المتحدة مع نائبته كامالا هاريس. وأتأمّل تعزيز علاقات الصداقة والتحالف الاستراتيجي بين تركيا والولايات المتحدة». رسالةٌ كانت محلّ انتقاد من قِبَل رئيس كتلة حزب «العدالة والتنمية»، بولنت طوران، الذي لفت إلى أن إردوغان فاز في 15 انتخابات وبالرئاسة مرّتين، ومع ذلك، لم يهنّئه في أيٍّ منها. أمّا التهنئة الثانية التي أثارت غضب الرئيس التركي، فجاءت من «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي. إذ أرسل رئيساه، برفين بولدان ومدحت سنجار، رسالة تهنئة باسم الحزب، ووصفا فوز بايدن ونائبته بأنه «نقطة تحوّل ونجاح مهمّ» للديموقراطية الأميركية. وأعربا عن أملهما بأن تتبع واشنطن سياسات تدعم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة الجنسية وسياسات خارجية أخلاقية وسلمية.
ليس إردوغان قلقاً من وصول بايدن فحسب، بل إنه بدأ يشعر بأن البنية التحتية الاقتصادية والسياسية حوله تهتزّ بقوة. إذ إن مغامراته في سوريا وليبيا وشرقي المتوسط والقوقاز، على رغم ما حقّقه من نقاط ومكاسب، لم تَعد عليه سوى بالمزيد من التقهقر الاقتصادي. تراجعت الليرة التركية أمام الدولار بصورة قياسية خلال أيام وأسابيع. ويقول رئيس الحكومة السابق، أحمد داود أوغلو: «لقد سلّمت البلد عام 2016 والدولار يساوي 2.70، واليوم يلامس الدولار عتبة التسع ليرات»، أي بتراجعٍ لا يقلّ عن الثلثين. من جهته، يعتبر رئيس «حزب الديموقراطية والتقدم»، علي باباجان، أن «الليرة تفقد قيمتها بسبب سوء الإدارة، أما الكلام عن تدخّل خارجي أو داخلي فهو مجرّد هراء». في ضوء ذلك، اضطرّ إردوغان إلى إقالة حاكم المصرف المركزي، مراد أويصال، وتعيين وزير المالية السابق، ناجي آغبال، بدلاً منه. وإذا كانت الضغوط الأميركية تشكِّل أحد أسباب التراجع الاقتصادي التركي، غير أن رغبة إردوغان في إقامة «حكم العائلة»، متشبّهاً بعائلة ترامب، جعله يستبعد الخبراء الجدّيين، ويفضّل زوج ابنته سميّة، برات البيرق، الحديث العهد في السياسة، فكيف بالاقتصاد، لتحميله مسؤولية الاقتصاد وتسليمه وزارة المالية والخزانة. في تجربته، أظهر صهر الرئيس كلّ غباء ممكن في إدارة الملف الاقتصادي، بخلاف علي باباجان الذي جعل الاقتصاد ينمو قبل أن يغضب عليه إردوغان، فينشقّ ويؤسّس «حزب الديموقراطية والتقدّم»، بل إن داود أوغلو تهكّم على برات البيرق بتغريدة جاء فيها: «ما إن نظرت إلى متن استقالة الوزير البيرق، لم تصدّق عيناي. لقد كُتبت حتى بلغة تركية بمستوى المرحلة الابتدائية». وأطرف تبرير للاستقالة، هو أن البيرق أرجعها إلى أسباب صحية، فيما هو لا يزال في سنّ الـ 42. في إرغام برات البيرق على الاستقالة، يكون إردوغان قد فَقَد مرشّحه وخليفته المحتمل في الزعامة، ليبحث عن خليفة جديد من خارج الأسرة الحاكمة، إلا إذا عاد من جديد إلى أحد... أبنائه.
وفي سياق أزمة إردوغان، ينقل الكاتب مراد يتكين في موقعه أن حوالى 30 إلى 40 نائباً من حزب «العدالة والتنمية» أبلغوا وزير الداخلية، سليمان صويلو، أنه إذا استمرّت سياسة البيرق المالية، فسيتركون الحزب وينتقلون إلى حزبَي داود أوغلو وباباجان. ويقول يتكين إن هناك مخاوف، اليوم، من أن تتحوّل الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية، والأخيرة إلى أزمة سياسية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا