تنتظر تركيا قمّة رؤساء الاتحاد الأوروبي يومَي 24 و25 أيلول/ سبتمبر الجاري في بروكسل، لكي تبني على الشيء مقتضاه. فزعماء الاتحاد هدّدوا قبل عشرة أيام في أجاكسيو بكورسيكا الفرنسية بفرض عقوبات على أنقرة إن لم تبادر إلى سحب سفينة التنقيب «أوروتش رئيس» من المنطقة التي تعتبرها اليونان تابعة لها. وبالفعل، قامت تركيا بخطوة تراجعية تكتيكية مُبديةً استعدادها للحوار، فيما بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للدعوة إلى مفاوضات جادذة وصريحة اعتبرتها تركيا تراجعاً فرنسياً.وإلى أن تُحسم الأمور المعقدة أصلاً، فإنّ تركيا بدأت تتحسّب لأي عقوبات محتملة أو لاحقة بتحصين وضعها وتعطيل مفعول هذه العقوبات، ومنها ما يُمكن أن يُفرض على سفن الأبحاث والتنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط. ومن مؤشّرات ذلك، والتي تتجاوز حتى دول الاتحاد الأوروبي، رفضُ شركة يابانية أن تبيع تركيا أنظمة إلكترونية لسفينة التنقيب «قانوني» (السلطان سليمان القانوني). كذلك ضغوط الدول الغربية وقبرص الجنوبية على الموظفين الأجانب العاملين على متن السفن التركية للاستقالة، والتهديد بمثولهم أمام المحاكم الدولية بذريعة العقوبات المحتمَلة على تركيا. وحتى لا تتعرّض عمليات التنقيب للتوقّف بدأت تركيا العمل على تخفيض عدد العمال الأجانب على متن سفن التنقيب إلى الثلث، وفي وقت كانت فيه تركيا تختار استئجار سفن للتنقيب فإنها بدأت الآن العمل على شراء هذه السفن.
وفي ظل الضغوط الهائلة على تركيا بشأن عمليات التنقيب في شرق المتوسط حاولت أنقرة أن تفتح كوّة في جدار الحصار عليها وتطرح على مصر ترسيم حدود المنطقتين الاقتصاديتين الخاصتين بهما، بما يضمن لمصر، وفقاً لمعلومات صحيفة «حرييت»، أن تحصل على مساحة إضافية تعادل ثلاثة أضعاف حجم جزيرة قبرص من المياه زيادةً على ما نصت عليه اتفاقية اليونان ومصر.
ورغم أن كثيرين يَرون ذلك من باب شقّ معسكر الخصوم، جاءت دعوات جديدة من مسؤولين وديبلوماسيين أتراك سابقين للتغيير في السياسة الخارجية التركية، ولا سيما بعد توقيع اتفاق التطبيع بين إسرائيل وكلٍّ من الإمارات والبحرين. يرى الديبلوماسي المعروف والنائب السابق أونور أويمين أن اتفاقيات التطبيع تجعل من إسرائيل أكثر تأثيراً في المنطقة، معتبراً أنه ليس من مصلحة تركيا أن تبقى في عزلة عن دول المنطقة. ويرى أن لتركيا مصلحة في التواصل مع مصر وترسيم المنطقة الاقتصادية الخاصة بينهما. كذلك الأمر، على تركيا أن تحسّن علاقاتها مع إسرائيل، قائلاً إن تركيا كانت البلد الأول الذي اعترف بإسرائيل فكيف يمكن لها اليوم أن تعترض على اعتراف الإمارات والبحرين بإسرائيل؟ إن آخر بلد يحق له الاعتراض هو تركيا. وقال إن تركيا بلد مؤثّر في المنطقة لكنها لا تستطيع ترجمة قوتها بالبقاء بعيدة عن علاقات جيدة مع دول المنطقة. ودعا أويمين تركيا إلى أن تأخذ الصورة بمجملها وتقرأ جيّداً لماذا أرسلت الإمارات طائرات مقاتلة إلى جزيرة كريت للمشاركة في مناورات مشتركة مع اليونان وقوى أخرى. ولماذا رفعت واشنطن الحظر جزئياً عن تصدير السلاح إلى قبرص اليونانية وقدّمت دعماً لمثلث اليونان وإسرائيل وقبرص اليونانية. ويقول أويمين إنه حتى البلد الوحيد الذي أقامت تركيا علاقات متينة معه، وهو ليبيا، سوف يترك رئيس حكومتها الموالي لتركيا فايز السراج موقعه الشهر القادم لتكتمل عزلة تركيا شرق المتوسطية في ظل التخوف التركي، الذي عبّر عنه إردوغان ضمناً، من انحسار النفوذ، المستجد أصلاً، هناك.
تجعل اتفاقيات التطبيع من إسرائيل أكثر تأثيراً في المنطقة


أمّا بالنسبة إلى الضغوط الغربية على تركيا، فإن تركيا تمتلك أوراق قوة باتت شبه معروفة. الأميرال المتقاعد جهاد يايجي، المعروف بأبحاثه ودراساته، تحدّث إلى وكالة أنباء تركية قائلاً: إن التوتر في شرق المتوسط سيدوم طويلاً. وقال إن البلد الذي يهدد بالحرب ليس تركيا بل اليونان. وقال إن المدخول الأوّل لليونان هو السياحة، لكن المدخول الثاني هو التجارة البحرية، كذلك الأمر بالنسبة إلى قبرص اليونانية. وفي حال نشوء أي حرب أو توترات أو عقوبات فإن تركيا، وفقاً لاتفاقية مونترو للمضائق، يمكن لها أن تبطئ أو تؤخر أو تحدد آلية مرور السفن التجارية اليونانية والقبرصية اليونانية في مضيقي البوسفور والدردنيل، والتي يقارب عددها الخمسين سفينة سنوياً. كذلك في حال اشتبهت تركيا بوجود أسلحة على متن هذه السفينة يمكن لها أن تمنعها أو تفتّشها وتؤخر مرورها، وهذا يكبّد هذه السفن خسائر كبيرة. وفي أسوأ الحالات في حال شنّت اليونان حرباً فإن قوة تركيا هي ضعف قوة اليونان. وقال يايجي إن على تركيا أن تقوم بما يخدم مصالحها أوّلاً. فإذا كان في مصلحتها التوافق مع مصر وإسرائيل وروسيا فلم لا؟وإذا كانت مصلحتها الوقوف في وجه هؤلاء فعليها القيام بما يلزم.
وفي البعد الفرنسي من التوتر، فإن تغريدة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كانت لافتة بمضمونها وكذلك في أنها كانت بالتركية، وجاء فيها: «في أجاكسيو (في جزيرة كورسيكا) أرسلنا رسالة محددة إلى تركيا: لنؤسس من جديد حواراً مسؤولاً بنيّة حسنة وبلا سذاجة. وهذا النداء هو قبلاً نداء الاتحاد الأوروبي. فلنتقدّم».
الناطق باسم رئاسة الجمهورية إبراهيم قالين لم يتأخر في الرد قائلاً: «إن تغريدة ماكرون جميلة ولطيفة، لكن ليس المهم الألفاظ بل المعنى، وفي قناعتي إن ماكرون لا يقرأ السياسة الدولية بصورة صحيحة». يرى علي فائق ديمير، الباحث في جامعة غلطة سراي، أن ماكرون يحاول أن يمحو صورته المعرقلة للتفاهم بعد أن قام برفع وتيرة التوتير. ويرى ديمير أن عدم صدور قرار بالعقوبات على تركيا سيكون فشلاً لماكرون الذي سيتحول إلى أضحوكة أمام الرأي العام.
وفي انتظار قمة بروكسل المفتوحة على التفاهم، كما على التجاذب، فإن مشكلات تركيا مع اليونان كما في شرق المتوسط متداخلة ومعقدة ومزمنة، ما يجعل الوصول إلى حلّ جذري لها مستبعداً كلياً في المديين المنظور والمتوسط.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا