بدأت ملامح الخوف من ركودٍ اقتصادي عالمي بالظهور في أروقة مراكز القرار المالي في العالم وإجراءاتها. فقد أعرب الاحتياط الفيدرالي منذ أسبوع نيّته إنفاق 1.5 تريليون دولار لإسعاف السوق المالية، إضافةً إلى طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الكونغرس الموافقة على إنفاق قرابة تريليون دولار لتحفيز الاقتصاد في مواجهة فيروس «كورونا». وكذلك أعلن البنك المركزي الأوروبي أمس نيّته إنفاق 750 مليار يورو حتى نهاية العام ضمن ما سمّاه خطة شراء طارئة بسبب «كورونا».خطة المركزي الأوروبي هذه تعني إعلانه بدء تدخله بغية «إنقاذ» المصارف والشركات المالية، كمحاولة منه لاستباق إفلاسها أو انفجارها، وبالتالي تدمير الاقتصاد. فـ«الشراء» الذي تهدف إليه الخطة يعني طبع الأموال لشراء الأوراق المالية والسندات التي تحملها المصارف والشركات الخاصة وبعض الشركات العامة المتعثّرة، بعدما أصبحت عاجزة عن إيجاد من يشتري سنداتها.
في الأدبيات الكلاسيكية للاقتصاد الرأسمالي، يُنظر إلى البنك المركزي كـ«الملاذ الأخير» الذي يتدخل عند انسداد الأفق أمام الشركات. وهذا ما نشهده الآن. فالمركزي الأوروبي أعلن في بيانه أنّ مجلس حُكّامه سيفعل كل ما يتطلبه الأمر ضمن صلاحياته، وأنّه على أتمّ الاستعداد لزيادة ميزانية خطته وتمديدها بالكمية والوقت الضروريّين لإنجاحها. والجدير بالذكر أنّ هذه الخطة تأتي بعد ستة أيام فقط من إعلان «المركزي» نفسه نيته إنفاق 120 مليار يورو للغاية عينها.
وكانت كريستين لاغارد، رئيسة «المركزي»، قد ذكرت في تغريدة لها أن «الظروف الاستثنائية تحتاج إلى إجراءات استثنائية»، إلا أنّ هذه الظروف ليست استثنائية فعلاً؛ ففي حين يتم الآن تبرير إنفاق كميات كبيرة من الأموال، بأنها ستُرصد لمواجهة تبعات «كورونا»، تجدر فعلاً مساءلة صوابية هذا التبرير. فالإجراءات ليس جديدة. بعد الأزمة العالمية عام 2008، أطلقت الإدارة الأميركية قانون الإنعاش وإعادة الاستثمار لمعالجة تبعات الأزمة بميزانية تقارب تريليون دولار. غير أن الأرقام بلغت أكثر من المتوقع. فقيمة الأصول التي يملكها الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) ارتفعت من 900 مليار دولار عام 2009 إلى 4.5 تريليونات دولار عام 2015، وهي أموال أنفقها الفيدرالي على شراء سندات تملكها شركات متعثرة.
عمليات الإنفاق الكبيرة هذه التي تقوم بها الدولة أو مصرفها المركزي تُسمى أحياناً «التسهيلات المالية». وهي بشكل أو بآخر تعتمد «الوصفة الكاينزية» التي تقول بضرورة تدخل الدولة عبر الإنفاق الكبير لحماية الاقتصاد خلال الأزمات. وهو ما دأبت الحكومات والمصارف المركزية على اتباعه منذ الكساد العظيم عام 1929 حتى الركود العظيم سنة 2008، وصولاً إلى اليوم. ولذلك أصبح من الصعب تبرير هذه الأزمات الدورية في السوق الرأسمالية بكونها نتيجة صدمات وعوامل خارجية؛ فالحديث عن أزمة مالية كان سابقاً للـ«كورونا»، الذي ربما يكون مجرد شعرة قصمت ظهر السوق. إلا أنّه بات من الصعب غضّ النظر عن الخلل في آليات السوق الذي يودي بها دوماً إلى الأزمة. الكلفة تزداد أزمة بعد أزمة، والأصعب أنّها كلفة تهدف إلى «إنقاذ» الرأسمال المالي وأصحابه من مصارف وشركات مالية بذريعة أنّ سقوطهم خطر على الجميع والاقتصاد ككلّ. ولكن كما قال المرشح اليساري للرئاسة الأميركية، بيرني ساندرز، في ردّه على قيام حكومته بإنفاق آلاف مليارات الدولارات لإنقاذ هذه المصارف والشركات نفسها عام 2008: «إذا كانوا أكبر من أن يسقطوا، فهم أكبر من أن يكونوا موجودين أصلاً».