سارعت الدولة التركية، في آذار/ مارس من عام 1949، إلى الاعتراف بإسرائيل بعد أشهر فقط على قيامها. وهو اعتراف طوّرته، مع مرور عام واحد فقط عليه، عبر إقامة علاقات دبلوماسية كاملة على مستوى المندوبين. تلقّفت إسرائيل هذا التوجه التركي في حينه، وتعاملت معه على أنه فرصة استراتيجية يمكن استغلالها في أكثر من اتجاه لتحقيق جملة مصالح لدولة غُرست في محيط رافض لها، وفي المقدمة منها تعزيز جهود دفع التهديد الوجودي عنها. على هذه الخلفية، كانت أنقرة، في أوائل خمسينيات القرن الماضي، واحدة من العواصم الأربع الوحيدة التي ضمّت ممثلياتُ إسرائيل الدبلوماسية فيها ملحقاً عسكرياً، إلى جانب واشنطن وباريس ولندن. وعلى رغم الرفض العربي للخطوة التركية، استطاعت تركيا أن تفرض على الآخرين (العرب) واقع تنامي علاقاتها مع إسرائيل، بوصفه حقيقة ثابتة لا يمكن التراجع عنها، وضمن سياسة الوجهين: شيء من التعاطف مع القضية الفلسطينية شكلاً، فيما العلاقات مع إسرائيل تتنامى شكلاً ومضموناً.كانت المعادلة التي حكمت العلاقة بين الجانبين هي التخادم على مستويات مختلفة، وإن اعترضت هذا التخادمَ مواقف لفظية مستنكرة ورافضة من أنقرة، في أعقاب اعتداءات إسرائيل وحروبها، وهضمها للحقوق الفلسطينية، مع ضابطة أن لا ينعكس رفض السلوك الإسرائيلي الاعتدائي تغييراً في مضمون العلاقات أو منعاً لتناميها. هذا ما حدث عام 1956 مع العدوان الثلاثي على مصر، وأيضاً في حرب عام 1973، ومع تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية عام 1980، وغيرها من المحطات العدائية الإسرائيلية للعالم العربي والأراضي الفلسطينية المحتلة.
رأت إسرائيل مصلحة ممتدة في إقامة علاقات دبلوماسية مع تركيا، الدولة المسلمة التي تحدّ جغرافيا عدداً من الدول العربية التي تصارع إسرائيل، ضمن ما كان يُعرف بـ«استراتيجية التحالف مع دول الأطراف»، وهي الدول التي تحدّ دول الطوق العربية لإسرائيل، وتضمّ إضافة إلى تركيا، إيران الشاه والسودان وإثيوبيا. ونظرت إسرائيل إلى العلاقات مع تركيا على أنها إقرار بشرعية وجودها من قِبَل إحدى أهم وأكبر الدول المسلمة في المنطقة. وبوصفها دولة ذات تأثير إقليمي كبير، وتحُدّ دولتين عدوتين هما سوريا والعراق، عملت إسرائيل على استخدام الحليف الجديد لتأمين سلة مصالح استراتيجية، خصوصاً في الجانب الأمني والعسكري.
من ناحية تركيا، كانت إسرائيل منبعاً لفوائد أبرزها: تعزيز موقف الأولى ضد أعداء محتملين من محيطها العربي وغير العربي كسوريا واليونان، تأمين سلة مصالح أمنية وتسليحية كان يتعذر على أنقرة تأمينها كاملة بمفردها في تلك الحقبة، تسخير اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لموازنة اللوبي الأرمني الذي كان يضغط على الإدارة الأميركية في حينه لتجميد علاقاتها بتركيا ومنع تناميها، الدفع باتجاه تحقيق المطلب العلماني التركي في الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة عبر التحالف مع تل أبيب الذي يُعدّ دلالة على الافتراق عن الشرق والتأكيد على الهوية العلمانية للدولة، والاستفادة من التقنيات الموجودة في إسرائيل (خارج دائرة التسليح) والتي كان بإمكان الأخيرة الاستحصال عليها بسهولة غير متاحة لتركيا، من دول غرب أوروبا والولايات المتحدة.
تظهير العداء لإسرائيل غبّ الطلب هو وسيلة للنفوذ السياسي في الإقليم


لكن مع الوقت، تقلّصت هذه الفوائد إلى الحدّ الذي بات فيه بإمكان تركيا تجاوزها، إن أرادت، بناءً على ما بات لديها من قدرة ذاتية على تأمين مصالحها مباشرة من دون تخادم مع إسرائيل، أو القدرة التي استجدّت لديها ربطاً بالدور الذي اضطلعت به بين المحاور والأحلاف الدولية، وأتاح لها الوصول إلى شتى التقنيات والتطور التسليحي، أو مكانتها الاستراتيجية في الحسابات الأميركية بما يعني ضمان التأييد والمؤازرة الأميركيين إن لزم الأمر. إلا أن القدرة النظرية على الاستغناء عن إسرائيل لم تُترجم عملياً، ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن هذه العلاقة تحوّلت إلى أداة قياس في الداخل التركي في ما يتعلق بعلمانية الأحزاب والشخصيات السياسية، الأمر الذي استتبع من تركيا العلمانية الإبقاء على العلاقة، ليس بوصفها تحالفاً وتخادماً بين دولتين فحسب، بل بوصفها أداة لفحص الانتماءات.
لكن مع انطلاق مسار التغيير في هوية السلطة في أنقرة، وصولاً إلى صعود «حزب العدالة والتنمية» الذي حمل مشروع هيمنة وتوسعة نفوذ في المنطقة، فقد تعامل الحزب مع إسرائيل على أنها واحدة من الوسائل المتوفرة لديه لتحقيق هذه الهيمنة، ليس عبر التخادم الذي حكم العلاقة طويلاً في القرن الماضي، بل عبر تظهير الرفض لها، كمدخل مؤاتٍ للتغلغل في الإقليم، بوصف تركيا الجديدة راعية وداعمة للقضية الفلسطينية ومعادية للاحتلال، وإن اقتصر ذلك على الرفض الكلامي واستعراض الاستنكار والتهجم الدوري على تل أبيب، لكن مع ضابطة أن لا يلامس كلّ ذلك أي ترجمة ميدانية. في المقابل، تتموضع إسرائيل قبالة تركيا دفاعياً على خلفية ما ذكر، وتكتفي بالردّ التناسبي على أي تحرك «عدائي» تركي من دون أن تتجاوز التناسبية. وتموضع تل أبيب هذا امتصاصي، مبنيّ على رؤية تفرض عليها انتظار تغيير أو إعادة الهوية التركية الحاكمة إلى ما كانت عليه، بوصف «العدالة والتنمية» مؤقتاً، أو يؤمل أن يكون مؤقتاً. وعلى ذلك، أي تحرك «عدائي» من قِبَل أنقرة يجري التعامل معه في تل أبيب على أنه تحرّك غير دائم صادر عن «تركيا أردوغان»، وليس عن تركيا الدولة، وبين التوصيفين فروق واسعة.
على ذلك، يمكن تفسير سعي إسرائيل إلى المحافظة على ما أمكنها من علاقات خارج الدائرة السياسية التي تتحرك فيها ومن خلالها «العدائية» التركية، وتحديداً العلاقات الاقتصادية والسياحية على اختلافها، في انتظار عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق من حميمية ودفء. سلوكٌ يقف في خلفيّته الميزان البيني: حاجة إسرائيل إلى تركيا أكبر وأشمل استراتيجياً من حاجة تركيا إلى إسرائيل، حتى مع سعي تل أبيب إلى تعويض الفتور مع أنقرة عبر تأسيس علاقات وتنميتها بدول أخرى مثل قبرص واليونان وبلغاريا. وهي علاقات، وإن تعاظمت فعلاً، إلا أنها لا تعوّض المكانة التركية في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل.
في الوقت نفسه، تضع تركيا ضوابط لـ«عدائيّتها» تجاه إسرائيل، وتحصرها في الحدّ السياسي والعداء الكلامي، وفقاً لمصالح السلطة في أنقرة سواء كانت داخلية و/أو خارجية تتطلب التصويب على تل أبيب، من دون أن ينسحب ذلك على ما من شأنه أن يضرّ بالأخيرة أمنياً. وتلك ضابطة حاكمة لكل المقاربة التركية للشأن الإسرائيلي، يصعب إيجاد أيّ دليل خرق لها أو محاولة خرق لها طوال السنوات الماضية. من هنا، الحميمية في العلاقات التركية مع حركات المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حركة «حماس»، مشروطة بأن لا تكون تركيا والعلاقات معها منصة للإضرار بإسرائيل أمنياً، وهو حدّ تدركه تل أبيب جيداً، ويقف في مقدمة العوامل التي تزن من خلالها موقفها من أنقرة.
ومن هنا أيضاً، يمكن تفسير استمرار العلاقات التجارية والاقتصادية والسياحية بين الجانبين، والتي سجلت تنامياً على رغم الأزمات الحادة والمشادات الكلامية في السنوات القليلة الماضية. وفي هذا تلتقي المصلحتان: إسرائيل غير معنية بقطع الأشكال الأخرى للعلاقات المقطوعة نسبياً على المستويين السياسي والعسكري، فيما تركيا أيضاً تريد المحافظة على التواصل الاقتصادي، المجال الذي تلعب إسرائيل دوراً محورياً في الإبقاء عليه. هكذا، تفصل كلّ من تل أبيب وأنقرة عملياً بين الخصومة السياسية والتعاون الاقتصادي، في مفارقة تميز العلاقات التركية ــــ الإسرائيلية التي تبقى قائمة مهما اشتدّت الأزمات السياسية.
إذاً، تظهير العداء لإسرائيل غبّ الطلب، وتبعاً للظروف ومتغيّراتها، هو وسيلة للنفوذ السياسي في الإقليم، وليس غاية في ذاتها مبنية على الموقف من إسرائيل نفسها، وإلا لانسحبت القطيعة السياسية على مجالات العلاقات الأخرى التي بقيت تتعاظم، وعلى تعزيز الدعم الفعلي للمقاومة الفلسطينية بهدف الإضرار بالاحتلال الإسرائيلي، الذي تعلن أنقرة أنها رافضة له.