نشر موقع «بي بي سي» مقالاً حول التنمّر في أماكن العمل، مستنداً إلى دراسة واستطلاع حول الموضوع الإشكاليّ الذي يندرج ضمن قضية التنمّر الآخذة في نيل الاهتمام عالمياً أكثر فأكثر. ومثلما باتت دول وحكومات عدة تهتمّ بمكافحة التنمّر، لا سيما في المدارس وعبر الإنترنت، يثير هذا المقال نقاشاً حول الأضرار التي تسفر عن ممارسة التنمّر في بيئة العمل.

علاقات القوة
يعرّف قاموس «أكسفورد» التنمّر على النحو الآتي: هو عندما يحاول أحدهم إيذاء أو تهديد أو إخضاع شخصٍ ما، يُنظر له على أنه أكثر ضعفاً.
يعكس التنمّر، مثل غيره من الإساءات الاجتماعية كالتحرّش، علاقات القوّة بين الأفراد، إذ يطمح المتنمّر عموماً إلى إثبات تفوّق على ضحيته وممارسة سلطة عليها لإخضاعها أو التلاعب بها.
ويقسّم التنمّر عالمياً إلى أربعة أنواع: أولاً، التنمر الجسدي الذي يشمل الإيذاء الجسماني أو إيذاء ممتلكات الغير. ثانياً، التنمّر اللفظي الذي يضمّ توجيه الشتائم والإهانات والسخرية من الآخر. ثالثاً، التنمر الاجتماعي الذي يشمل تشويه سمعة الآخرين. رابعاً، التنمّر الإلكتروني.
ويمكن للتنمّر أن يؤثر سلباً على حياة الضحايا على المديين القصير والطويل، لا سيما على مستوى خلق وتنمية مشاكل نفسية معيّنة تترك أثرها في شخصية الفرد.
آخر القصص المأساوية في ما يخصّ التنمّر في المدارس على سبيل المثال، كان انتحار طفل في التاسعة من العمر في ولاية كولورادو الأميركية في شهر آب/ أغسطس الماضي، بعد تعرّضه لمضايقات من زملائه في المدرسة عقب إفصاحه عن ميوله الجنسية المثلية.
على الصعيد المحلي، خلُصت دراسة أعدّتها «الجمعية الفرنكوفونية للأمراض النفسية» في حزيران/ يونيو الماضي، إلى أن نحو ربع الأطفال في لبنان يتعرّضون للتنمّر من قِبل أقرانهم في المدرسة.

أمراض بسبب التنمر
بالنسبة إلى التنمّر في أماكن العمل، فهو يتضمّن سلوكيات «تبدأ من الصياح في وجه الزملاء، إلى توجيه الانتقاد على الملأ، أو التهديد بالفصل من العمل»، بحسب المقال.
وأشار المقال الذي كتبه الأستاذ في كلية إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، جيفري فيفير، إلى دراسات أكّدت أن التنمر في أماكن العمل يمكن أن يسبب لضحاياه «بعض أمراض القلب، والشعور بالاكتئاب».
من جهتها، حدّدت أستاذة علم النفس في جامعة برينستون سوزان فيسك، وأستاذة الإدارة والقيادة في جامعة هارفرد آمي كادي، سمتَي الود في المعاملة والكفاءة المهنية كعاملين أساسيين يحكم الناس من خلالهما على الآخرين. ويربط الناس عموماً بين «السلوك السيئ» ومستويات عالية من المهارة والكفاءة.
في هذا السياق، أشار المقال إلى أن قادة مشهورين وكبار المديرين التنفيذيين حول العالم، لم يُعرفوا بالمعاملة الودية والدافئة مع الموظفين. فمؤسس شركة «آبل» ستيف جوبز، ومؤسس «أمازون» جيف بيزوس، بالإضافة إلى مؤسس «تيسلا» إيلون ماسك، «يؤكدون في الغالب على ضرورة أن يكونوا أكثر حزماً وصرامة مع الموظفين، من أجل تحقيق نجاح كبير في مجال عملهم». كما أن العديد من الأشخاص الموهوبين المشاركين في تأسيس «آبل» مع ستيف جوبز، تركوا الشركة بسبب طريقته الصارمة في الإدارة، بحسب ما يقولون.

الكفاءة vs اللطف
لفت كاتب المقال إلى دليل لمواجهة التنمرّ بعنوان «The Asshole Survival Guide» (2017) لأستاذ علوم الإدارة والهندسة في جامعة ستانفورد، بوب ساتون، وذلك رداً على رسائل أشخاص يسألون عن الطريقة المناسبة للتعامل والتكيّف مع المديرين المتسلطين.
وأشار الكاتب إلى تجارب أجراها مع أستاذ الأعمال في جامعة فرجينيا بيتر بيلمي، لدراسة هذه القضية. التجارب التي شارك فيها 900 شخص، توصلت إلى النتيجة الآتية:
إذا كانت مكافأة الناس (ما يتوقعون كسبه) تتوقّف فقط على مستوى أدائهم الشخصي، فإنهم يميلون بقوة إلى العمل مع شخص يوصف بأنه اجتماعي (أي يتّسم بالود، ويتعامل بلطف ودفء مع الآخرين)، حتى لو لم يكن على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة المهنية. لكن حينما كانت تعتمد المكافأة على الأقل على أداء الشخص الآخر الذي يعملون معه أو يكلّفونه بمهمة ما، كانت أهمية السمات الشخصية الاجتماعية تتراجع، ويصبح التركيز متزايداً على القدرة والكفاءة لدى ذلك الشخص. ووجد الباحثان، أنه عندما تتوقّف المكافآت التي ستحصل عليها على ما يقوم به الآخرون، فإنك سوف تقيّم الناس وتحكم عليهم بصورة صارمة وفقاً لقدراتهم المهنية، بدلاً من الاهتمام بما لديهم من سمات اجتماعية ومعاملة ودية. وتشير هذه الدراسة إلى أن أحد أسباب تقليل الناس من شأن العلاقات الودية والمهارات الشخصية الاجتماعية في مكان العمل هو أنهم يختارون تحليل قدرات الآخرين من أجل التأكد من قدرتهم على القيام بالمهام المطلوبة.

ثقافة أكثر إنسانية
يدعو كاتب المقال إلى «خلق ثقافة أكثر إنسانية» في أماكن العمل، وأن يتم التوظيف ليس فقط على أساس الكفاءة المهنية، ولكن أيضاً على أساس «كفاءة اجتماعية» في التعامل مع الآخرين، وهي ما يُطلق عليه البعض أحياناُ «الذكاء العاطفي».
في السياق نفسه، أشار المقال إلى أن التنمّر والإساءة إلى الآخرين في مكان العمل «لا تؤثر فقط في حالتهم النفسية، لكنها أيضاً تنعكس سلباً على أرباح الشركات بصورة كبيرة»، موضحاً في هذا السياق أن العاملين الذين يتعرضون للتنمر «من المرجح أن يتغيبوا عن العمل كثيراً»، خصوصاً بعد ربط العلاقات السلبية في بيئة العمل ببعض الأمراض العضوية والنفسية.
إشارة الكاتب حول أرباح الشركة في هذا الإطار، تُذكّر بمثال شهير للفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، في معرض حديثه عن الرأسمالية عن «المدير المتسلّط» مقابل «المدير الودود». يقول جيجك، إن «الثورة» على المدير الأول (كناية عن الأنظمة المتسلطة) أسهل بكثير من الثورة أو الانتصار لحقوقك كموظف مقارنةً بالحالة الثانية. ففي حالة المدير اللطيف الذي يتصرّف بوداعة ويتبادل النكات والأحاديث وربما الزيارات مع الموظف، ستولد قشرة تغطّي الاستغلال، الذي يظلّ «عارياً» في الحالة الأولى!