غاري كاسباروف المولود في عام 1963 في جمهورية أذربيجان السوفياتية، من أب يهودي وأم أرمينية مسيحية، تحوّل بعد تقاعده عن لعب الشطرنج إلى سياسي روسي معارض، وناشط يرأس منظمة حقوقية يقع مقرّها في الولايات المتحدة، وتحديداً في برج «إمباير ستايت» النيويوركي.«قاهر الذكاء الصناعي»، وهو اللقب الذي اكتسبه بعد فوزه على الحاسوب، عاد اسمه ليتردد أخيراً، بالتزامن مع مباريات كأس العالم 2018، حين دعا العواصم الغربية إلى التكاتف والتحلي بالقوة والمثابرة للتصدي للدور الجيوسياسي المتصاعد لرئيس بلاده فلاديمير بوتين، داعياً «العالم الحر» إلى الاهتداء بكرواتيا التي استطاعات إلحاق الهزيمة بروسيا في مباريات كرة القدم!
ليس موقف من هذا القبيل بجديد على كاسباروف، بل هو يتماشى مع مواقف سياسية قديمة له. فهو من أنصار بوريس يلتسين، حيث قدم له الدعم في انتخابات الرئاسة عام 1996، وهي الانتخابات التي كاد الزعيم الشيوعي المعروف بمواقفه الحادة تجاه القوى الغربية غينادي يزوغانوف أن يحقق النصر فيها، لولا تدخل البيت الأبيض ورجال الأعمال من أمثال بوريس بيريزوفسكي، الذين استفادوا من الفساد وعمليات الخصخصة، لمصلحة يلتسين.
ومعروف أن كاسباروف سبق أن شارك، في أيار عام 1990، في تأسيس «الحزب الديموقراطي» في روسيا، الذي كان في بدايته بالأخص حزباً ليبرالياً مناهضاً للشيوعية، ويميل للانفتاح على العواصم الغربية والتقارب مع سياساتها.
في عام 1991، حصل كاسباروف على جائزة من «مركز السياسة الأمنية»، وهو مركز يميني مقره واشنطن، ومهتم بمتابعة «الأفكار الجهادية». في خطاب قبوله للجائزة، أشاد كاسباروف بسقوط الاتحاد السوفياتي. لكنّ الاهم في هذ الإطار، أن الجائزة نفسها كان لها دور في إعلان عضويته في مجلس إدارة المركز الأمني الأميركي في نيسان عام 2007، الذي سرعان ما أعلن الخروج منه، بعد وقت قصير، زاعماً أن عضويته فيه جاءت عن غير قصد!
لم يتأخر الوقت طويلاً لفهم سبب هذا التملّص من عضوية «المركز الأمني»، ففي العام ذاته، أعلن كاسباروف نيته الترشح للرئاسة الروسية، ممثلاً ائتلاف «روسيا الأخرى»، ثم سافر إثر ذلك مباشرة إلى الولايات المتحدة، وظهر في العديد من البرامج الشعبية، حيث استضافه وولف بلترز وستيفن كولبير وكريس ماثيوز، لكن الأمر لم يتمّ له، وسط دلائل على انعدام الشعبية، فانسحب من السباق الرئاسي في كانون الأول من عام 2007، مع اتهامات من حملته للنظام بالتعنت في القوانين المنظمة للترشح، والتضييق العام على المنافسين.
في عام 2013 ظهر كاسباروف كشخص مرفوض من الشارع الروسي العادي بدرجة كبيرة، بعدما شنّ حملة واسعة للتشويش على استضافة روسيا لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية، ودعوته الرياضيين إلى المقاطعة. يومها، برر كاسباروف الحملة بأن هذه الفعاليات «تزيد من قوة النظام وتعطيه الهيبة»، معتبراً أن النظام الروسي يستحق العقاب، لأنه يناهض «المثلية الجنسية»، وداعياً شركات كبرى مثل «كوكا كولا» إلى المساهمة في الحملة المناهضة لسلوكيات النظام.
وبرغم «حملات» كاسباروف، ومعه وسائل إعلام غربية، وبرغم الهجوم الإرهابي المزدوج والمدبر بعناية بواسطة «إمارة القوقاز الإسلامية» في مدينة فولغوغراد في كانون الأول عام 2013، أقيمت الدورة الأولمبية الشتوية بنجاح في مدينة سوتشي في شباط عام 2014، وكان حفل الافتتاح محل إشادة واسعة.
الجدير بالذكر أن دورة عام 2014، هي الثانية التي تنظم في روسيا بعد دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في موسكو عام 1980، خلال عهد ليونيد برجنيف. وحينها، ووجه الاتحاد السوفياتي، أيضاً، بحملات مقاطعة واسعة بذريعة التدخل في أفغانستان، وقد أثمرت حينها استنكاف 60 دولة عن المشاركة.
في عام 2013 ظهر كاسباروف كشخص مرفوض من الشارع الروسي


يمكن وصف عام 2014 «عام الانتكاسات» لكاسباروف، فعلاوة على فشل حملة التشويش على الألعاب الأولمبية، اتهم لاعب الشطرنج المعتزل بعد فترة قصيرة بتقديم نصف مليون دولار كرشوة حتى ينال منصب رئيس الاتحاد العالمي للشطرنج، وقد ثبتت إدانته، ما أدى إلى إيقافه في أيلول عام 2015 لمدة عامين، من جميع وظائف الاتحاد العالمي واجتماعاته.
بحسب رؤية كاسباروف، هناك «عالمٌ حرّ»، يمثله العالم الغربي، ينبغي له التصدي لمناهضيه من أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو لا يتردد في مساواة بوتين بهتلر، وهذا كان مضمون الخطاب الذي فصّله في كتابه «الشتاء القادم» الصادر في عام 2015.
تجمع كاسباروف اتصالات سياسية واسعة بكرواتيا، البلد الصغير الذي يسوّق نفسه قاعدةً للمصالح الغربية في جنوب شرق أوروبا. ويحافظ كاسباروف على منزل صيفي في مدينة ماكارسكا الكرواتية. وفي بداية شباط من عام 2014، تقدم بطلب للحصول على الجنسية الكرواتية، التي حصل عليها بالفعل في الثامن والعشرين من الشهر نفسه. ومن المعروف أن كاسباروف كان مؤيداً صريحاً لتفكيك الاتحاد اليوغوسلافي وانفصال كرواتيا في أوائل التسعينيات، وهو الحدث الذي دعمته العواصم الغربية.
المنظمة الحقوقية التي يرأسها كاسباروف محسوبة ضمن أدوات الـ«سي آي إيه» بحسب تقارير مسندة للحزب الشيوعي الكوبي، وناشطين مقاومين للنهج الإمبريالي الأميركي. هذه المنظمة الحقوقية التي تحمل اسم «مؤسسة حقوق الإنسان» (أتش آر اف) ترتبط عبر مستشاريها ــــ ومن بينهم أستاذ القانون كينيث أندرسون ـــــ بمنظمة «أوبن سوسايتي» التابعة للملياردير الشهير جورح سوروس، وهي تتلقى تمويلات، بخلاف غير المعلن منها، من عدد من رجال الأعمال، من بينهم بيتر ثيل عضو مجلس إدارة «فايسبوك» وأول مستثمر مالي فيه، والمرتبط بمشاريع وزارة الدفاع الأميركية لجمع المعلومات، ومن بينها «إن كيوتل» المسجلة للاستخبارات الأميركية منذ عام 1999. كذلك تستقبل «أتش آر اف» تبرعات من عدد من الممثلين مثل آن آرتشر وغاري سينيز، ومن مصمم الأزياء زانج توي، ومؤسسة «أركوس» المعنيّة بالنشاطات الجنسية، إلى جانب آخرين من المشاهير ورجال الأعمال.
والجدير بالذكر أن هذه المنظمة سبق أن أسسها ناشط فنزويلي يدعى ثور هالفرسون في عام 2005، وهي تركز نقدها ضد دول مثل كوبا والصين وبوليفيا وفنزويلا والإكوداور وكوريا الشمالية، وتنظم مؤتمرات بغرض الهجوم على هذه الأنظمة التي يجمع بينها الخلاف مع نهج الناهب الأميركي وعداء أميركا تجاهها. من هنا، لا يكف هالفرسون في كتاباته وخطاباته عن توجيه الانتقادات لفيديل كاسترو وزعماء راحلين من النمط ذاته، مثل ماو تسي تونغ.
وأما الرئيس الأول للمؤسسة الحقوقية، فهو السياسي والكاتب التشيكي فاتسلاف هافل، أحد أبرز المؤثرين في أحداث تشيكوسلوفاكيا في عام 1989 ــــ «الثورة المخملية» ــــ التي حصلت بتحريض من المعسكر المالي الغربي لإنهاء النظام الاشتراكي، ثم نجحت في فصل تشيكيا عن سلوفاكيا.
وكان هافل نفسه فاعلاً في السابق في «ربيع براغ» (1968)، وقد تمتع بدعم غربي جدّي على المستوى السياسي، كذلك جرى تلميعه أدبياً كروائي وكاتب، قبل أن يتولى رئاسة تشيكوسلوفاكيا (1989-1992)، ثم رئاسة تشيكيا حتى عام 2003، وقد أشرف على هدم حلف وارسو، وتوسيع حلف «الناتو». واستمر هافل في ترؤس المؤسسة الحقوقية حتى وفاته في عام 2011، ليخلفه غاري كاسباروف.
حين يجري تناول أخبار كاسباروف كـ«معارض»، غالباً ما يُتغاضى عن سيرته وارتباطاته وعن المنظمات التي يديرها والأماكن التي يعيش فيها، ما يوحي باستقلاليته أو يقدّمه كناشطٍ فردٍ مستقلّ، وهذا غير صحيح إطلاقاً. على هذا الأساس، من اللازم دوماً التمييز بين السياسي الذي يلعب دور الناقد والمعارض، والملتحم بالشعب والمنطلق من همومه، وبين السياسي الذي «يعارض» أيضاً، ولكنه أداة للخارج... ولعلّ كاسباروف يمثّل في الواقع النموذج الواضح لهذا النوع من «المعارضين».