الليرة التركية تنهار، فيما تقترب تركيا من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة، التي دعا إليها الرئيس رجب طيب أردوغان، في 24 حزيران/ يونيو المقبل. واحدٌ من الأسباب التي طرحت بشأن التعجيل بهذه الانتخابات التي كان من المفترض أن تحصل في تشرين الثاني/ أكتوبر 2019، هو الاقتصاد. منذ بداية هذا العام، مؤشرات عديدة بيَّنت أنّ تركيا تتجه نحو أزمةٍ مالية لا مناصَ منها، ولذا ما كان مِن «حزب العدالة والتنمية»، حفاظاً على قبول الناخبين له وقبل الانهيار المالي المتوقَّع، سوى الدعوة إلى هذه الانتخابات.غير أنّ الآية بدأت تنقلب. اختار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يختلق معركةً مع الأسواق المالية، لكنّ ذلك بدأ بالارتداد بشكلٍ جدّي على مالية البلاد مع الهبوط الحادّ لليرة التركية، بين ليلةٍ وضحاها.
يمكن القول إن الوضع كان جنونياً خلال الليل، مع ملامسة الليرة 4.9 مقابل الدولار الأميركي، لتعود وترتفع اليوم إلى 4.75، إلّا أنها لا تزال عند مستوى منخفض قياسي، مع خسارة 21 في المئة من قيمتها منذ بداية العام، ما يجعلها من أسوأ العملات أداءً في الأسواق الناشئة هذا العام. في وقتٍ لاحقٍ اليوم، تدخّل البنك المركزي، لتواصل الليرة التركية التعافي وترتفع إلى 4.56 مقابل الدولار الأميركي، وذلك بعيد اجتماع لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي لتقييم التطورات، وقرار البنك المركزي رفع أحد أسعار الفائدة الأربعة الرئيسية بمقدار 300 نقطة أساس إلى 16.5 في المئة بعدما كانت 13.5 في المئة.

ما الذي يحصل؟
الانخفاض الحاد في قيمة الليرة التركية يرجع بشكلٍ أساسي إلى قلق المستثمرين من تأثير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على السياسة المالية للبلاد. تزايد قلق المستثمرين بشكل خاص عقب تعليقات أدلى بها أردوغان الأسبوع الماضي، أثناء زيارة لندن، بقوله إنه يريد أن يزيد من سيطرة الرئيس على السياسة النقدية بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في تركيا في 24 حزيران/ يونيو. تعليقات أردوغان عن أسعار الفائدةأيضاً كان لها تأثير سلبي، فقد أبدى مستثمرون انزعاجهم من ضغط أردوغان المتواصل على المصرف المركزي المستقل اسمياً، لعدم رفع معدلات الفائدة، فيما كان الرئيس التركي قد قال أيضاً إن معدلات الفائدة هي «سبب كل العلل».
لا يمكن لتركيا أن تخلق عداءً مع سعر الفائدة والمستثمرين لسببٍ أساسي وهو أن اقتصاد البلاد يعتمد بشكلٍ كبير على رؤوس الأموال الأجنبية في ظل نظام اقتصادي عالمي ليبرالي يتحكم فيه الدولار الأميركي وصندوق النقد والبنك الدوليين.
سبق هذا التراجع في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار تحذير من قبل وكالة «فيتش»، قبل يومين، بشأن مسعى أردوغان لتعزيز السيطرة على المصرف المركزي، قائلة إن خطاب الرئيس قد يفرض مزيداً من الضغوط على تصنيف الدين السيادي التركي.
وفق «فيتش»، فإن «السياسة النقدية في تركيا تخضع منذ وقت طويل لقيود سياسية، لكن التهديد الواضح بكبح استقلالية المصرف المركزي يزيد المخاطر التي تحدق بمناخ صناعة السياسات وفعاليتها».
شرحت الوكالة أنّ «تزايد التآكل في استقلالية السياسة النقدية سيفرض مزيداً من الضغوط على التصنيف الائتماني السيادي لتركيا»، علماً بأن «فيتش»، كغيرها من وكالات التصنيف الائتماني الكبرى، صنّفت الدين السيادي لتركيا عند «عالي المخاطر»، وهي درجة غير استثمارية.
كذلك، أعطت وكالة «ستاندرد أند بورز غلوبال» للتصنيف الائتماني تحذيراً سابقاً من أن المالية العامة لتركيا قد تتدهور سريعاً إذا أخفقت السلطات في تخفيف الضغوط الحالية على العملة، وتقليص تكاليف الاقتراض الحكومي.
(أ ف ب )

منحت «ستاندرد آند بورز» بالفعل تركيا تصنيفاً أقل من وكالات التصنيف الأخرى المنافسة مثل «موديز» و«فيتش»، لكن فرانك جيل، كبير محلليها للتصنيفات السيادية، قال لـ«رويترز» إن الوكالة قد تتحرّك مجدداًَ إذا استمر الهبوط الحالي للسوق.
رداً على سؤال عمَّا إذا كانت «ستاندرد آند بورز» ستعيد النظر في نظرتها المستقبلية إلى تركيا، وهي حالياً عند «مستقرة»، في إطار خفض التصنيف إذا لم تنحسر الضغوط الحالية في السوق، قال جيل «من المحتمل». وتابع قائلاً إن «هناك قلقاً من أن وضع ميزان المدفوعات يتدهور، وأنه بدأ فعلاً بإلحاق ضرر بالنمو والمالية العامة بوتيرة أسرع». أضاف أن ارتفاع أسعار النفط لم ينتقل إلى محطات بيع الوقود، وهو ما يعني أن دخل الحكومة من الضرائب يتراجع، بينما قدمت المصارف الكثير من القروض بالدولار، والتي أصبحت أكثر تكلفة في السداد مع هبوط قيمة الليرة.
فيتش: التهديد الواضح بكبح استقلالية المصرف المركزي يزيد المخاطر المحدقة بمناخ صناعة السياسات

في نهاية المطاف، وفق جيل، الكثير «سيعتمد على ما يفعله المصرف المركزي»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن أنقرة لديها «احتياطيات كبيرة ونعتقد أنه يوجد بالتأكيد مخرج من (المشاكل الحالية)»، ودعا أيضاً السلطات إلى اتخاذ «إجراءات حازمة».

لماذا لا يريد أردوغان رفع معدّلات الفائدة؟
وفق ما يشرح مراسل «رويترز» في اسطنبول، دافيد دولان، فإنّ أردوغان يودّ في الواقع تخفيف كلفة الاقتراض، أي أن يجعل عملية الاقتراض للشركات ومؤسسات البناء أسهل. وإذا لجأت تلك المؤسسات إلى الاقتراض، فهي ستبني أكثر، وهو يرغب في أن ينمّي الاقتصاد بهذه الطريقة، فهو بنظره يُترجَم بفرص عملٍ أكثر وبأصواتٍ أكثر في صناديق الاقتراع. لذلك، هو دعا المصرف المركزي مراراً إلى تخفيض كلفة الاقتراض.
لا يبدو أن أردوغان مدركٌ لتأثير خططه، فقد أصرّ في مقابلةٍ مع وكالة «بلومبرغ» على ضرورة ضلوعه بدورٍ أكبر بشأن السياسات المالية، بقوله: «عندما تكون رأس الدولة، فالناس سيضعون الملامة عليك عندما يواجهون صعوباتٍ بسبب السياسات المالية. ولأنهم سيسائلون الرئيس عن ذلك، علينا أن نعطي صورةً عن رئيس لديه تأثير على السياسات المالية». تابع أن «علينا أن نقوم بهذه الخطوات بهدف حماية مصالح بلدي وسنفعل ما تتطلبه المصلحة الوطنية».
لم يجب أردوغان في المقابلة التي جرت قبل أسبوع عن طبيعة التغيير الذي سيحكم علاقته بالمصرف المركزي، بل أكّد بشكلٍ مبهم أنّها «ستستمرّ بنفس الطريقة، فنحن لسنا جدداً على حكم البلاد، إننا نقوم بذلك منذ 16 عاماً بشكلٍ متواصل».
أما في شأن استقلالية المصرف المركزي التي سيهددها تدخل الرئيس في صناعة السياسات المالية للبلاد، فأوضح أردوغان أنّ تركيا ستطبّق الطريقة المعتمدة نفسها في العالم: «مهما كانت مقاربة الحكومة في الولايات المتحدة أو في أوروبا، فسنطبّقها نفسها. ما هو قانوني لهم لا يمكن أن يكون لا قانونياً لنا. على الجميع أن يعلم ذلك، وسنتخذ خطواتنا بناءً على ذلك. لن نسمح بأن يخسر بلدنا».

ماذا ستفعل السلطات لمواجهة الأزمة؟
الحلّ الأمثل هو تدخّل المصرف المركزي ورفعه لمعدّلات الفائدة، علماً أنّ البنك المركزي، بعد اجتماعه اليوم، أبقى على أسعار الفائدة الرئيسية بدون تغيير، مع رفع إحداها 300 نقطة إلى 16.5 في المئة. أوضح المركزي أن لجنة السياسة النقدية قررت تنفيذ تشديد نقدي قوي لدعم استقرار الأسعار، مضيفاً أن موقفاً متشدداً في السياسة النقدية سيجري الحفاظ عليه بشكل حاسم حتى تظهر توقعات التضخم تحسنا ملحوظاً.تابع أن أي بيانات أو معلومات جديدة قد تدفع لجنة السياسة النقدية إلى تعديل موقفها.

(أ ف ب )

في المقابل، لا يمكن الجزم ما إذا كان الرئيس التركي سيعدّل موقفه، بمعزلٍ عن المصرف المركزي. ويبدو أنه لا يوجد هناك إقرار بالأخطاء من قبل الحكومة. فقد نقلت وكالة «الأناضول» للأنباء عن المتحدث باسم الحكومة التركية قوله اليوم إن هناك «لعبة» تجري باستخدام الليرة، لكنها لن تغيّر في نتائج الانتخابات المقرّرة الشهر المقبل. ونقل عن نائب رئيس الوزراء التركي بكير بوزداج قوله أيضاً: «شاهد الناس اللعبة واللاعب. شاهد الناس الدمية ومحركي العرائس. لن يسمحوا لهم أو يمنحوهم فرصة».
بدوره، دعا وزير الاقتصاد نهاد زيبقجي، في مقابلة، جميع «المؤسسات المسؤولة» إلى التصرّف من دون تأخير لكي «نظهر أننا لا يمكن أن نسمح بأي انخفاض في قيمة الليرة»، معتبراً أنه لا يجب ربط تراجع الليرة بديناميات الاقتصاد التركي.
في وقت لاحق، اليوم، قال نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك إن الوقت حان «لإعادة المصداقية إلى السياسة النقدية واستعادة ثقة المستثمرين»، مضيفاً أن الحكومة «ملتزمة بالحفاظ على انضباط المالية العامة وتسريع إصلاحات هيكلية ومساعدة مساعي البنك المركزي لكبح التضخم».
من المنتظر أن يلقي أردوغان خطاباً أيضاً هذا المساء، فيما عقد في وقتٍ سابق اجتماعاً مع رئيس الوزراء بن علي يلدريم، لحوالى ساعتين في المجمع الرئاسي في أنقرة، وفق وكالة «الأناضول»، من دون أن يصدر بياناً رسمياً عن محتوى الاجتماع. كذلك اجتمع أردوغان أيضاً مع رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان.
من جهةٍ ثانية، أعلنت بورصة إسطنبول، اليوم، أنها حوّلت جميع العملات الأجنبية الزائدة عن احتياجاتها على المدى القصير إلى الليرة التركية اعتباراً من اليوم، وذلك «بعد المضاربات التي شهدتها أسواق العملات الأجنبية خلال الفترة الأخيرة». ولفتت البورصة «إلى وجود مضاربات تهدف إلى تشويه صورة الاقتصاد التركي قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية»، وتلك المضاربات «لا تتوافق مع المعطيات الاقتصادية الحقيقية في تركيا».

مواقف المعارضة
مرشّح «حزب الشعب الجمهوري» العلماني، محرّم إينجه، رأى أن على رئيس الجمهورية «طرد» جميع مستشاريه الاقتصاديين، محذراً من أن الاقتصاد التركي بات على وشك «الاصطدام بجدار».
وتابع أنه إذا أصرّت الحكومة على الاستمرار في السياسية الحالية، «فسنغرق جميعاً وستخسر بلادنا من دخلها». ودعا أيضاً إلى عدم التدخل في سياسات المصرف المركزي، طالباً من الحكومة إنهاء التكهنات بشأن احتمال قيامها بتحويل جميع العملات الأجنبية إلى الليرة التركية أو وضع اليد على التبادلات الأجنبية التي قد تصل إلى حدّ تثبيت سعر الصرف.
من جهتها، انتقدت مرشحة «حزب الخير» القومي، ميرال أكشنار، الحكومة لعدم رؤيتها «الحقائق» وعدم اعترافها بأخطائها، مضيفةً أن «الاقتصاد التركي لا ينهار بسبب التدخلات الخارجية». ووضعت أكشنار الملامة على الحكومة بسبب «عجرفتها»، على اعتبار أن الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) فضّل سياسة «الاستهلاك بدل الإنتاج». وتابعت أن الحكومة اقترضت المال وصرفته على البناء.